الرماد في الدين والثقافة الإنسانية
جعفر البحراني
طالما كانت والدتي رحمها الله وكثيرات من أترابها النساء يأمرون أبنائهن بجمع البردي عندما يتساقط ويطلبون منهم وضعه فوق الرماد الموضوع في إناء خصص لهذا الغرض، ثم يترك ليوم أو يومين على حاله حتى يجف الماء ويتماسك الرماد المبتل ببعضه البعض على شكل كتل صغيرة ثم يحفظ في إنائه أو في كيس ليستخرج منه حسب الحاجة لاستخدامه للتبرك به أو لدفع العين والسحر، سواء من خلال نقع حبة أو حبتين منه أو أكثر في الماء ومن ثم شربه أو الاغتسال والمسح به.
وتعد طريقة وضع البردي على الرماد هي الوسيلة الوحيدة لحفظ ماء البردي لفترة أطول حيث لا يوجد ثلاجات ولا أجهزة تجميد، فكان البردي يوضع فوق الرماد ويترك ليسيل شيء فشيء فيتماسك الرماد الذي أصابته الرطوبة ببعضه البعض وكانوا يطلقون على الرماد المتماسك بردي.
كان أهلنا ينظرون للرماد على أنه مادة نظيفة ونقية تماما بل وطاهرة بالمستوى الذي توضع فيه على الجروح لوقف النزف، أو لتستخدم كنيشان لتحديد مواضع الكي على جسد مريض.
وقد شكل الرماد المتبقي بعد حرق جذوع النخيل والأشجار وسيقانها وعصيها وسعفها فيما مضى جانبا من الأهمية تمثل في الاستفادة منه كمادة لدفع العين والسحر بعد ذوبان البردي فيه، وكذلك كمادة طاهرة ومعقمه توضع على الجروح لوقف النزف وسيلان الدم، كما تمت الاستفادة من الرماد في تسميد التربة، وفي الأعم الأغلب كانت هناك عمليات تصنيع مخصوصة للرماد فيما عرف سابقا بالجص الذي شكل مادة أساسية لبناء المنازل.
وفي جانب آخر شكل رماد الشحوم والزيوت بعد حرقها كحلا تتزين به النساء ويتطبب به الناس، ولهذا كانت صناعة الكحل رائجة في المجتمع المحلي.
الرماد في العقائد والأساطير
يعتقد المسيحيون بما يعرف بأربعاء الرماد وهو تقليد كنسي يقام في أول يوم من الصوم الكبير الذي يصوم فيه المسيحيون في العالم كله كصوم مخصوص للاستعداد لعيد القيامة المجيد، وهو في الطقس الروماني يبدأ بوضع الرماد فوق الجباه أو الرؤوس ضمن طقوس الاحتفال بآلام المسيح وموته وقيامته كتعبير عن التوبة والحزن الداخلي على الخطيئة.
وفي المثيولوجيا وجدنا أن الرماد يعيد طائر العنقاء للحياة مرة ثانية كما تقول أسطورة طائر العنقاء الذي يستسلم للموت فيجمع حول نفسه أكواما من الحطب ثم يرفرف بجناحيه فتشتعل النار في الحطب ويحترق طائر العنقاء وما إن تخمد النار حتى يخرج طائر عنقاء جديد من تحت الرماد.
وأما في مثيولوجيا خلق العوالم نجد أن الإغريق ينسبونها إلى شخص جميل يدعى نركسيوس أو نرجس كان يحب النظر إلى انعكاس صورته في مياه النهر، ومن رماد جثته نبتت زهرة النرجس وإليه تنسب النرجسية أو حب الذات المفرط.
وفي الثقافة الهندية الأوروبية نجد شجرة الرماد في الميثولوجيا الإسكندنافية. حيث ينبثق الإنسان الأول من بين الرماد.
فوائد الرماد
وأما فوائد الرماد بحسب موقع موضوع الإليكتروني فيقول أن للرماد فوائد عديدة، منها أنه يُساعد على نمو العشب في الحديقة، بواسطة رش كميّة قليلة منه في الحديقة. كما يُساعد على إزهار النباتات المُثمرة مثل البندورة، ويقوّي جذور الفاكهة حين يتم توزيعه حول قاعدة الأشجار بكميّات ضئيلة. كما يُستخدم كمبيد للحشرات، والآفات الطبيعيّة، وذلك من خلال خلطه بالماء ورشّه على المزروعات. ويُستخدم لإذابة الجليد بسرعة عن السيارات ومداخل المنازل، عن طريق رش كميّة بسيطة منه على تجمّعات الجليد. ويُستخدم كذلك لغايات التنظيف في المنزل، حيث يعد مُنظّف جيّد للأسطح، والزجاج. ومُزيلاً لبُقع الملابس المختلفة بما فيها بقع الصدأ، ولديه قدره على إزالة الروائح الكريهة من الثلاجة، فضلا عن أنه كان يُستخدم قديماً لحفظ الجُبن من التعفُّن لمُدّةً طويلة.
كما يعد الرماد بديل للصابون كونه يعد عامل تطهير نظرا لـقلويته، ولهذا توصي منظمة الصحة العالمية بالرماد أو حتى الرمل كبديل للصابون عندما لا يكون متاحا.
قيمة الرماد المادية والمعنوية والعلمية
ولعل ما فعلته أم ثكلى في تحويل رماد الابن إلى وشم ينتشر على مختلف تضاريس جسدها لضمان اقترانها بابنها يعد تفسيرا منطقيا للاحتفاظ بمادة الجسد الجوهرية. كما أن قبيلة في فنزويلا والبرازيل يأكل أهلها رماد أحبائهم من أجل الاحتفاظ بهم.
وفي الجانب العلمي يشير الرماد إلى جميع المخلفات غير السائلة وغير الغازية التي تبقى بعد حرق شيء، وفي تحليل المحتوى المعدني للعينات المحترقة، يكون الرماد هو المنتج النهائي بعد الاحتراق وهذا المنتج عادة يحتوي على كمية من المخلفات العضوية القابلة للاحتراق أو غيرها من المخلفات القابلة للأكسدة إضافة إلى بقايا غير قابلة للاحتراق مثل البوتاسيوم والكالسيوم والصوديوم والحديد والفوسفور والعديد من المواد الأخرى غير العضوية. وفي سويسرا عمدت محرقة جثث لتركيب نظام تصفية من شأنه أن يستخرج شظايا الذهب والفضة والبلاتين من الرماد. ومن ثم تباع هذه البقايا الثمينة لجسم الإنسان من خلال إعادة تدوير من أجل الربح. كما يتم أيضا صنع الألماس من رماد الموتى من خلال وضع محلول كيميائي على الرماد يعمل على استخراج الكربون ثم يدخل في عملية تسخين لتحويله إلى جرافيت الذي يتحول بعد عملية تسحين أخرى إلى الماس ذو لون يترواح بين الأبيض إلى الأزرق الداكن تبعا لكمية البورون الموجودة في رماد المتوفي.
ويعتبر رماد العظام المحترقة مادة أساسية لمعرفة جنس صاحبها. فيحدث أحيانًا أن تتلاشى هذه الأدلة إذا مُزق أو شُوه رفاتنا بفعل الحرارة عند حرق الجثث، لكن هناك تقنية جديدة مُكتشفة تزود الباحثين بأفكار جديدة لفهم العظام القديمة عن طريق التقاط التلميحات الخفية عن الجنس، ويعتقد مكتشفو هذه التقنية أنها فعالة بنسبة 80%، وهي بذلك قريبة من دقة وواقعية الطرق المستخدمة حاليًا في تحليل الهياكل العظمية السليمة.
الرماد في الفقه الإسلامي
وفي الفقه الإسلامي تتحول الأعيان النجسة أو المتنجسة إلى طاهرة، فالخشب المتنجس يطهر إذا استحال رمادا، والكلب والخنزير يعد رمادهما طاهرا، وذلك وفقا لمختلف آراء الفقهاء في مختلف المذاهب وإن كان هناك اختلاف في بعض التفاصيل وبعض الأمور، لكن يبقى أن الرأي العام هو الاستحالة بالنار التي عدها الفقهاء تطهر الأعيان النجسة ذاتا بإحالتها دخانا ورمادا.
فإذا كانت الشافعية والحنابلة في ظاهر مذهبهم يقولون بأنها لا تطهر، فإنهم يرون طهارة النجاسة بالاستحالة بالنار وهو وجه ثان يتخرج على مذهب الشافعية والحنابلة إلا أنه مرجوع عندهم، فقد نقل إمام الحرمين عن أبي زيد والخضري من أصحاب الشافعية أن كل عين نجسة رمادها طاهر، تفريعا على القديم، إذ الشمس والريح والنار تطهر الأرض النجسة.
وأما المالكية فعندهم القولان معا، لكن المتأخرين يرجحون القول بالطهارة وهو المعتمد لديهم، لكن الحنفية كانت أكثر وضوحا في هذا الأمر فقالت أن النجاسة إذا استحالت بالنار إلى رماد أو غيره تطهر، لأنها لما استحالت وتبدلت أوصافها ومعانيها خرجت عن كونها نجاسة، لأنها اسم لذات موصوفة، فتنعدم بانعدام الوصف، وصارت كالخمر إذا تخللت.
وأما الشيعة فترى أن النجاسـة في موارد الاستحالة ترتفـع بانعـدام موضـوعها، وأن المستحال إليه موضوع آخر لا تعرف طهارته ونجاسته ولهذا لا مناص من الحكم بطهارته لقاعدة الطهارة، ولهذا فهم يجدون إن الاستحالة موجبة لانعدام موضوع النجس أو المتنجِّس عرفاً لتبـدّل حقيقة الشيء وصورته النـوعية إلى صورة اُخرى.
الرماد في الطب
وفي الطب النبوي عرف الرماد كمادة لوقف سيلان الدم كما ورد في الرواية عن سهل رضي الله عنه أنه سئل عن جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد فقال: جرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه فكانت فاطمة عليها السلام تغسل الدم وعلي يمسك فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت حصيرا فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألزقته فاستمسك الدم.
وطالما شكل الرماد مادة أساسية في العديد من العلاجات عند ابن سينا واستخداماته الطبية وقد ورد في كتاب القانون في الطب العديد من العلاجات التي اعتمد فيها ابن سيناء على رماد النباتات وثمارها وكذلك على رماد بعض الحيوانات، سواء بمزجها بمادة أو مواد أخرى مختلفة أو بأخذها لوحده وسواء كان العلاج مشروبا كمنقوع الرماد أو كان مأكولا بحيث يدر على بعض المأكولات.
وفي الطب الحديث فإن مزج البلاستيك المصنوع من نشاء الذُرة بالرماد البركاني يمنح الأطباء مادة قاسية صالحة لإنشاء بدائل لعظام الإنسان، حيث أنتج العلماء هذه المادة من ثاني أكسيد الكربون ومزيج من البوليمير والطين.
الرماد أم الطفو؟
أطلق أسلافنا على الرماد مفردة (طفو) ولم نسمعهم يقولون رماد إلا في الأمثال حيث يقال النار ما تخلف إلا الرماد، وكذلك المثل أو الحكمة القائلة ذر الرماد في العيون.
و(الطفو) مفردة عربية أجمعت المعاجم على أنها جذر لمفردة الطفاوة والطفاء. وتعني الشيء العالي فوق الماء والذي لا يرسب فيه.
وفي لسان العرب عن معنى مفردة الرماد قال: والرَّمادُ دُقاق الفحم من حُراقَةِ النار وما هَبا من الجَمْر فطار دُقاقاً، والطائفة منه رَمادة؛ قال طُريح: فغادَرَتْها رَمادَةً حُمَما خاوِيةً، كالتِّلال دامِرُها.
ورَمادٌ أَرمَدُ ورِمْدِدٌ ورِمْدَد ورِمْدِيدٌ: كثير دقيق جداً، والرِّمْدِ، بالكسر: المتناهي في الاحتراق والدِّقة.
وقد شبه الله تعالى أعمال الكافرين بالرماد الذي اشتدت به الريح في يوم عاصف، فبددته هباءً منثوراً، فقال سبحانه وتعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.
وأما عن مفردة الطفو فقال: طَفِئَتِ النارُ تَطْفَأُ طَفْأً وطُفُوءاً وانْطَفَأَتْ: ذهَبَ لَهَبُها.
والنارُ إِذا سَكَن لَهَبُها وجَمْرُها بعدُ فهي خامدةٌ، فإِذا سكنَ لَهبها وبرَدَ جمرها فهي هامِدةٌ وطافِئةٌ.
طَفَّ الشيءُ يَطِفُّ طَفّاً وأَطَفَّ واسْتَطَفَّ: دَنا وتَهيَّأً وأَمكن، وقيل: أَشرف وبدا ليؤخذ، والمَعْنيانِ مُتجاوران، تقول العرب: خذ ما طفَّ لك وأَطفَّ واستَطَفَّ أَي ما أَشرف لك، وقيل: ما ارتفع لك وأَمكن.
طَفَا الشيءُ فَوْقَ الماء يَطْفُو طَفْواً وطُفُوّاً: ظَهَرَ وعَلا ولمْ يَرْسُبْ.
وفي القرآن الكريم شبه الله الحرب بالنار التي كلما أشعلت أطفأها الله، فقال عز من قائل: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
ويبدو من خلال كل ما ورد أن مفردة الطفو لها دلالة قوية وبلاغة كبيرة تفوق كلمة الرماد التي تقتصر فقط على ما خلفته النار.
ولهذا نجد أن الاستخدام الشعبي لمفردة (طفو) يشير للمادة التي لم تحترق في النار وكذلك للمادة التي لم تغرق في الماء، وبالتالي تؤكد هذه المفردة على الشيء أو المادة الناجية من الغرق أو الناجية من الحرق.
أي أن مفردة طفو تعبر عن الشيء الراشح، أو الراجح أو البارز أو المرتفع الذي يعلو فيبقى عصيا على الحرق أو الغرق أو حتى على الغور أو الطمس أو الغطس.
وبهذا أيضا هي مفردة تعني وتشير للشيء المستنقذ وتدل عليه فالسفينة تطفو على الماء وكل شيء يطفو فهو مستنقذا والطفو ما يستنقذ من الحرق فهو الشيء الطافي أي الباقي بعد الحرق.
وحيث أنه عصي على الحرق فيعد ذي خصائص جوهرية للشيء المحترق بل يعد الخلاصة وروح الشيء الذي احترق وانتهى.