صحوة «القُرم» تحاول إصلاح ما أفسده أعداء البيئة في القطيف «أرامكو» أنشأت محمية في سيحة صفوى.. وجزيرة تاروت تستعيد عافيتها في الشاطيء الشمالي
صفوى: أمل سعيد
قبل 40 عاماً، كان محمد آل دهيم يحمل «ساليته» (شباك الصيد)، يغادر منزله، متجاوزاً غابات النخيل شرق بلدته صفوى، نحو غابات المنغروف في «سيحة» صفوى، التي تشكل سياجاً أخضرَ للبحر يمتد بطول الساحل تقريباً.
كان هذا المكان في الماضي مليئا بأنواع مختلفة وكثيرة من الأسماك والروبيان.
كان آل دهيم ينزل إلى أشجار المنغروف التي تُعرف محلياً بـ«القرم» برجليه، ليرجع موفور الحظ، يقول «كنا ننتظر موعد «ثبر الماية».
فهذا الوقت تعود فيها الأسماك مع الماء إلى الخور، وفي طريق عودتها تشكل رأساً في مجموعها، بإمكان الصياد أن يميزها بسهولة، وهنا يكفي أن يرمي عليها الشبك السالية، ليضمن أن يسحبها مليئة بالسمك».
أما اليوم؛ فالحال – كما يصفها آل دهيم – «لم تعد وفرة الأسماك كما كانت، فالقرم دُفن نصفه، والماء القادم من العيون، والذي يصب في القرم، انقطع بعد أن جفت ونضب ماؤها».
محمد آل دهيم
الدكتور حسن عنبر
رئة البحر
يصف المتخصص في علم البحار الدكتور حسن أحمد عنبر، حال غابات المنغروف «قبل 3 عقود، أو أكثر، كانت أشجار الشورى (اسم آخر للمنغروف أو القرم، الذي يُعرف أيضاً بابن سيناء، الذي اكتشف الفوائد الطبية لهذه الشجرة)، تشكل غابات تحاذي سواحل المدن السعودية في المنطقة الشرقية؛ مثل: الجبيل، الدمام، سيهات، القطيف وصفوى، وصولاً إلى رأس تنورة. وفي الساحل الغربي أيضاً، مثل: جزر فرسان، جازان، القنفذة، الليث، ينبع وجدة».
هذه الغابات – التي أشار إليها عنبر – كانت تشكل في جانب من جوانبها رئة المكان، وفي جانب آخر فهي الرحم الذي يحتضن الكثير من الأحياء البحرية.
Mangrove نباتات تعيش في البيئات المالحة، القريبة من البحر، وهي دائمة الخضرة طوال السنة، ولديها شكل جمالي يميزها عن باقي الأشجار؛ فالجذور لا تنغرز في الأرض بشكل تام، ولكن يبقى الجزء القريب من المجموع الخضري فوق التربة.
عقود من التعديات
رغم أهمية هذه الشجرة في البيئة الشاطئية، يقول الدكتور حسن عنبر، «إنها من أكثر البيئات البحرية المهددة بالإنقراض، وبدأت بالتلاشي من العديد من المناطق حول العالم، نظراً لجهل غير المختصين وأصحاب القرار بأهميتها البيئية».
يكمل «أن من أشد الأعداء لهذه البيئات البحرية الهامة المنشآت الصناعية والنفطية التي تستغل بيئاتها المُستقرة لإنشاء مدن صناعية ومصافي ضخمة».
داوود آل اسعيد
اعتداء صارخ على البيئة
بكثير من الحسرة؛ يصف الناشط البيئي داوود آل اسعيد، ما يحدث لغابات «القرم» بأنه «جريمة بيئية كبيرة»، ويقول «أي اعتداء على هذه الشجرة هو اعتداء صارخ على جودة الحياة البحرية في المقام الأول».
يضيف «هناك مخطط جديد شرق منطقة الخياطية، يقع في الجزء الجنوبي لبحر صفوى، وتقريبا 80% من أشجار المنغروف في هذا الجزء سوف تدمّر إذا تم المضي في المخطط، وهذا يعتبر اعتداءً على الحياة البحرية، واعتداءً على النظام البيئي بشكل عام»، ويتساءل «ألا يكفي ما تدمر من غابة المنغروف حتى الآن؟».
جاسم آل سعيد
يؤكد جاسم علي آل سعيد، رئيس جمعية الصيادين، وجوب الاهتمام بـ«القرم»، كونه «مصدر رزق لكثير من الناس. فيما يجهل الكثيرون أهمية بقاء أشجار المنغروف، هم لا يدركون أن هذه الشجرة هي المزرعة الحقيقية لكثير من الأسماك والروبيان في الخليج، وبالتعدي عليها هم يعتدون على مصدر غذائي مهم في المنطقة، كما يعتدون على مصدر رزق لكثير من سكان المنطقة الشرقية؛ والتي يعمل قسم كبير من سكانها في صيد الأسماك والإتجار به».
سن القوانين وخرقها
في سبيل المحافظة على ما بقي من هذه الثروة الوطنية؛ سنت الدولة قوانين تعاقب وتغرم كل من يعتدي بالقطع أو الردم أو بأي فعل يشكل خطراً على هذه البيئة، لكن ضعاف النفوس ومن يملؤهم الجشع والطمع لا يتورعون عن مخالفة الأنظمة، وخرق القوانين.
يقول داوود آل سعيد «في غالبية الدول يتم تغريم من يعتدي على أشجار المنغروف، حيث تقوم الشرطة الساحلية بإيقاف وتغريم أي شخص أو مؤسسة أو شركة تضر هذه الشجرة، بأي شكل من الأشكال سواء بالقطع أو الردم».
يضيف «عندنا مشكلة حقيقية وقائمة، فبينما القوانين والأنظمة تصدر للمحافظة على أشجار المنغروف، تُخطط أراض للسكن فوق تلك الغابة بعد ردمها».
يردف بأسى «الناس هنا لم يستوعبوا الدرس بعد، ولا يعون مدى أهمية هذه الشجرة للحياة الفطرية والثروة السمكية، وللهواء أيضاً».
جعفر الصفواني
وفي رأي مماثل؛ يقول نائب رئيس جمعية الصيادين السابق جعفر الصفواني «بالنسبة لأشجار المنغروف (القرم) هناك قرارات بعدم المساس بها صدرت منذ عام 1403-1404هـ، وأن أي اعتداء عليها يعرض المعتدي للغرامة، والمسائلة القانونية، ونحن نسعى مع الجهات المسؤولة لتطبيق القرارات السامية، وتفعيل ما جاءت به اللجنة الدائمة (اللجنة الثمانية) في هذا الشأن».
كورنيش رملي
في تقديرات داوود آل سعيد أن غابات المنغروف في صفوى «لم تتضرر كثيراً مقارنة بما حصل في كل من الدمام والخبر وسيهات وعنك وتاروت والقطيف، هذه المدن دُمرت فيها أشجار المنغروف أو كادت».
ويجدها، أي صفوى، «أقرب إلى طبيعتها البكر»، لذا «نتمنى لكورنيش صفوى إن رأى النور أن يكون رملياً، وأن لا يدفن الساحل، أو يطعم بحجر، ليبقى طبيعياً، كما حصل في كورنيش الربيعية، ونتمنى أن تمد الخرصان (القنوات) في الشاطئ، والدولة – ولله الحمد والمنة – قادرة على عمل ذلك».
سياحة بيئية مُستدامة
في تعريفه للسياحة البيئية؛ يقول الدكتور حسن عنبر «هي نوع من أنواع السياحة القائمة على مبدأ الاستدامة أو ما يعرف عالمياً بـ«السياحة المُستدامة»، وهي ترتكز بشكل أولي على عناصر الطبيعة، وبشكل ثانوي على العنصر الاجتماعي لسكان المنطقة».
في فبراير من عام 2016؛ أعلنت شركة «أرامكو السعودية» عن عزمها إنشاء محمية بيئية لأشجار القرم، على مساحة 60 كيلومتراً مربعاً، لتكون أول محمية من نوعها لحماية آخر غابة طبيعية متبقية في المنطقة، إضافة إلى زراعة مليون شجرة منغروف على الساحل الشرقي.
ولاقى هذا المشروع حفاوة وترحيباً من المهتمين حتى قبل أن يعلن عن موعد افتتاحه، يقول جعفر الصفواني «مشروع أرامكو رائع ومهم جداً، يقع في الخِري أو الخروي الغربي، شمال مسيح صفوى، بدأ المشروع قبل 6 سنوات، وهو يشبه المشروع الذي اقترحناه قبل مدة، أن نجعل من تاروت إلى صفوى مروراً في العوامية مكاناً للسياحة البيئية، وذلك لما تمتاز به من وجود أشجار القرم الكبيرة، إضافة إلى وجود الخيران، فتتحول إلى مزار سياحي لأهل المنطقة لمشاهدة الأشجار البحرية والطيور وكذلك الأسماك، فالممرات المائية التي تخترق غابات المنغروف تجعل التنزه فيها غاية في الروعة».
وأبدى داوود آل سعيد، سعادته الكبيرة بمشروع أرامكو «ما عملته الشركة في مشروع متنزه غابة المنغروف في صفوى، من استزراع الأشجار والحفاظ على هذه الشجرة يعتبر خطوة طيبة وممتازة، ونأمل أن يتم عمل متنزه مشابه في خليج تاروت».
أمنية أخيرة
يقول جاسم آل سعيد «رفعت خطابين بخصوص التعدي على البيئة البحرية، وتدمير أشجار المنغروف وتخطيط الساحل وتحويله إلى أراض سكنية؛ وإلى الآن لم يصلني الرد».
يضيف «نحتاج إلى مساندة من جميع أطياف المجتمع، لنقف معاً ضد هذا الجور الحاصل على هذه الشجرة، والتي تشكل رئة المدن الساحلية. كما نتمنى من الإعلام أن يقف وقفة جادة لمساندة جمعية الصيادين في المنطقة الشرقية، ليوصل أصواتنا لكل مسؤول يستطيع من مكانه إيقاف هذه التعديات وهذا التجني الذي يلتهم مساحات كبيرة من البيئة البحرية، ابتداءً من الخُبر وصولاً إلى صفوى ورأس تنورة والجبيل، وحتى الخفجي شمالاً».
اقرأ ايضاً