[4] قبس من سماء رمضان
الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*
{أمْ يحسُدونَ الناسَ على ما آتاهمُ اللهُ من فضله، فقد آتينا آل إبراهيمَ الكتابَ والحكمةَ وآتيناهم مُلكا عظيمًا}. النساء/54:
الحسَد معلوم بأنّه تمنّي زوال نعمة مِن مُستَحَقٍّ لها، وربما كان معه سعي في إزالتها، وهو الشر الرابع الذي يستعاذ بربّ الفلَق منه، وهو كذلك كما يشير القرطبي في تفسيره المعصية الأولى التي عُصيَ الله بها في السماء، حين جاءت مقرونة بالكِبر من إبليس اللعين، الذي تمرّد على السجود لآدم عليه السلام بدعوى (أنا خيرٌ منه). وهو كذلك مطيّة السوء التي لوّثت قابيل بدم أخيه هابيل، وصبغت قميص يوسف الكريم بدم ذئب الفريّة من إخوته العصبة، وهو كما قال عمر بن أبي ربيعة:
حسدًا حُمِلنَهُ مِن أجلها
وقديماً كان في الناس الحسدْ*
وفي سياق الآية الكريمة، يكون فعل الحسد من اليهود تجاه النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على أقوى الأقوال، وهو من أسباب إنكارهم لنبوته المثبتة عندهم في التوراة، والعتب الشديد من الباري عليهم في ذلك؛ يظهر في الاستفهام الإنكاري في (أم) وهو مقدّر بعدها إنكارا على حسدهم، وليس نافيا للحسد لأنه واقع منهم. وفي التقدير عند الرازي (بل يحسدون) باعتبار (أم) منقطعة. ولمّا كان الفضل الكامل في اصطفاء الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على سائر العالمين، بتحقق جمع كل خصال الخير فيه، بما لا يكون إلا متفرقا في الناس، كان معنى (الناس) هو رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على أرجح الأقوال. فكان حسدهم له على فضل النبوة، والاصطفاء دون العالمين.
وهنا تتجلّى لطيفة؛ إذ في الحسد مظهر غضبيّ من منبع الشيطان، ووصل واتصال بطبيعته الغضبية التي حالت بينه وبين الطاعة، فالحاسد غاضب من فقده نعمة هي في يد غيره، ظنّا منه أنه أحق منه بها، وهو ما يتوافق مع سخيمة النفس الحقود العامرة بالكبر، وهذا الغضب الشيطاني يفسر كلام العرب في الحاسد حين تقول: (أكل الحسد قلبه) كما تأكل النار، و (استوقد الحسد ضلوعه) فيكون القلب تنورا يكوي صاحبه، و( اضطرم صدره حسدا) والاضطرام صفة للهيب النار واشتعالها. وفي الحديث الذي رواه أبو داود في مسنده: “إياكم والحسد؛ فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”، فكان أن تعالق الحسد مع النار لتعالق أصل فاعله الأول (اللعين إبليس) مع أصل خلقته الذي هو النار. ومن هنا، يكون الحاسد على دربٍ محفوفٍ بالوجع والحريق، هذا الوجع تجده معتملا في نفسه، وقد يخرج مؤذيا المحسود مصيبا إياه بلذعة ناره، ولفحة شره، فكان من معاني كلمة الحسد: القَشْر، والقشر هو نزع الجلد ونحوه بما يترك احمرارا كأثر الحرق، فحال الحاسد كحال آلة تقشير تترك وجعا واحمرارا من جنس الحرق. ولا يستغرب من العامة خوفهم من الحسد وشره، وهو ما يدفعهم إلى الخلط مرات بين الوقاية منه عبر المشروع من التحصين والذّكر والتوكل والاستتار، وبين الوسواس وسوء الظن والتعليق، فيصير بعضهم راويا بحكاية الحسد في كل عثرة طريق، غافلا عن تقصيره معلقا أموره على عقدة الحسد. ومن عجيب الحسد حسد العلماء؛ وهذا شديد مؤذن بهلاكهم، وهو بعيد عن الغيرة المحمودة التي تصون العلم؛ بل هو خيلاء تتسلل إلى نفس العالم، فتحمله على التباهي ولربما الطغيان.
ومن ذلك، ما جاء في شرح مقامات الحريري للشريش: قال مقاتل بن سليمان يوما: “سلوني عمّا تحت العرش إلى أسفل الثرى، فقال له رجل: ما نسألك عن شيء من ذلك؛ إنما نسألك عمّا معك من الأرض؛ أخبرني عن كلب أهل الكهف ما كان لونه؟ فأفحمه”. وما حسد العلماء إلا خصيلة سوء تلبسّهم بها إبليس بالكِبر، فكان احتقار النظير، والتعالي على الفقير في علم ومعرفة، وهذا تالله شؤم جهل على علم. والدواء الناجع في هكذا سياق هو تحقق عين الرضا، واليقين بعدل الرزاق الكريم، وتدريب النفس على التواضع، والانشغال بتقويمها، وترك العباد ونعمهم لرب العباد؛ بله الفرح لهم، جاء في (محاضرات الأدباء) للراغب الأصبهاني:
ألا قل لمن كان لي حاسداً
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترضَ لي ما وهبْ
فكان جزاؤك أن زادني
وسدّ عليك وجوه الطلبْ
والله أعلم.
——
* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.