[ميناء القطيف 43] سيرة الطين.. في الأسطورة والدين
عدنان السيد محمد العوامي
في هذا الإبحار الممتع في سيرة هذا الميناء الخرافي العجيب عرضنا كثيرًا مما صدر منه وعبر، وورد عليه وصدر، ومن مر به من بدو وحضر، فقد كان المعبر الفرد في هذه البقعة الشاسعة الخصبة بين عمان جنوبًا وكاظمة شمالاً، تمر منه العطور والحلي، والتمر والسلوق، والدبس والجريد والسعف والحبال والخضرة، والفواكه، من جح، وبطيخ وخزرم، وحمضيات بأنواعها: اترنج (أترج) ولومي (ليمون)، ورارنج (نارنج)، وأشياء أخرى كثيرة مما يحتاجها الإنسان لمعاشه، وفي هذه الحلقة – وفي قادم الحلقات – سأتناول أشياء أخر من عابرات هذا الميناء، لا أحسبها خطرت على بال بشر، وأولها:
الطين
الطين في اللغة
جزى الله صديقنا الأستاذ أبا يعرب؛ محمد بن عبد الرزاق القشعمي، فقد تتبع عورات معاجم اللغة، وبيَّن قصور بعضها، وأخطاء بعضها الآخر([1])، ومحدثكم الفقير لله سبق أن كتب في صحيفة “صُبرة” عدة مقالات متواضعة تحت عنوان: (لهجة القطيف العامية من الشعر الفصيح)، قدم لها بمقدمة أبَان فيها قصور المعاجم، ونقصها عن استيعاب اللغة العربية([2])، فلا غرو إن عجزت تلك المعاجم عن التعريف بهذا الكائن البسيط؛ الطين. خذ يسيرًا من الأمثلة:
(طِين: بالكسر معروف، يختلف باختلاف طبقات الأرض، وأجوده الحر النقي الخالص بعد رسوب الماء، وأجود ذلك طين مصر، وله مزيد خصوصية في دفع الطاعون والوباء وفسادِ المياه إذا ألقي فيها، والمأخوذ من مقياس النيل مجرب لذلك، والطين أنواع منها المختوم، والدقوقي، والطليطلي والشاموسي والأرمني والخراساني. الطينة بهاء القطعة منه. تاج العروس).
(الطين: ترابٌ أو رمل وكلس يجبل بالماء ويطلى به السطح ونحوه. محيط المحيط).
(طين: الطِّينُ؛ معروف: الوَحَلُ، واحدته طِينةٌ، وهو من الجواهر الموصوف بها؛ حكى سيبويه عن العرب: مررت بصحيفةٍ طينٍ خاتَمُها، جعله صفة لأَنه في معنى الفعل، كأَنه قال لَيّن خاتمها، والطان لغة فيه؛ قال المُتَلمِّس:
بِطانٍ على صُمّ الصُّفي وبِكِلِّسِ
ويروى: يُطانُ بآجُرٍّ عليه ويُكْلَسُ
ويوم طانٌ: كثير الطين، وموضع طانٌ كذلك، يصلح أَن يكون فاعلاً ذهبت عينه وأَن يكون فَعَلاً. الجوهري: يوم طانٌ، ومكان طانٌ، وأَرض طانَةٌ: كثيرة الطين. وفي التنزيل العزيز: َأأَسْجُدُ لمن خَلقْتَ طِيناً؛ قال أَبو إسحق: نصب طِيناً على الحال أَي خلقته في حال. طينته. والطِّينة: قطعة من الطين يختم بها الصَّكُّ ونحوه. وطِنْتُ الكتابَ طَيْناً: جعلتُ عليه طِيناً لأَخْتِمَه به. وطانَ الكتابَ طَيْناً وطيَّنه: ختمه بالطين، هذا هو المعروف. لسان العرب). أفهمت شيئًا من كل هذا؟ من جانبي لم أفهم شيئًا، ولو سردت كل ما اشتملت عليه المعاجم لما ظفرتُ بطائل، فلعل عسر فهمي هو السبب.
الطين؛ ما حقيقته؟
الطين – في الحقيقة – ترابٌ ناعم إذا مزج بالماء يتحول إلى عجينة لزجة، وله ألوانٌ عدة. أما إذا أردت الإحاطة بمكوناته فلستَ محتاجًا إلى تعالمي، فقد أغناك الله بأن أتاح لك (Google) يوفر لك ما تحتاج من تفاصيل لا حاجة لإضاعة وقتك بنقلها، وبوسعك الاطلاع عليها متى شئت.
الطين في الميثولوجيا
خلق الإنسان في ملحمة “حينما في الأعالي”
(بأمرٍ من إنكي “أي إيا”، خلقت الآلهة “مامي” الإنسانَ من طين ممزوج بدم إله ذبيح). عثر على هذه الملحمة في لوح مهشم، أمكن من خلال القطع المبعثرة التقاط بعض النصوص، ومنها: ((ما أقل ما سيرفعه من وفرة فإن.. الخلق سيحمله الإنسان. الآلهة التي دعوها “… عون الآلهة “مامي” الحكيمة: ((أنت الرحم – الأم. خالقة البشر، اخلقي الإنسان حتى يحمل النير، فإن . . . الخلق سيحمله الإنسان))، (فتحت نِنْتو فمها وقالت للآلهة الكبار: ((بِيَ وحدي من المستحيل القيام بذلك. بل بمعونته سيكون الإنسان. سيكون من يخاف الآلهة جميعًا: الطين)). فتح إنكي فمه وقال للآلهة الكبار: ((في شهر الاستبدال (؟) والمعونة، شهر تطهير الأرض والحكم على رعاتها. فاذبحوا إلهاً، وليجعل الآلهة . . . وبلحمه ودمه لتمزج ينخور ساغ الطين، فالإله والإنسان اتَّحدا في الطين))([3]).
– حسب الأساطير السومرية؛ الإله إنكي أو إنليل خلق الإنسان كخادم للآلهة من الطين والدم، وفي سيرة سومرية أخرى – كلاهما إنكي، و Ninmah – خلقا البشر من وعاء مصنوع من الطين Abzu، وهي قارة إفريقيا اليوم، ووفقا للأسطورة وضع في الوعاء بويضة الإنسان والحيوانات المنوية من الأنوناكي للتخصيب، ثم وضعت مرة أخرى في الأنوناكي البطلة، وحسب الأساطير اليونانية, بروميثيوس خلق الإنسان من طين، في حين ديميتر ينفخ فيها الحياة، ووفق الأساطير الصينية Nüwa قام بصب مجسمات من الأرض الصفراء، ومنحها الحياة والقدرة على الإنجاب. ووفق الأساطير المصرية الإله خنوم يخلق الأطفال من الطين قبل وضعهم في رحم الأم، ووفقا لمعتقدات بعض قبائل الهنود الحمر قام “صانع الأرض” بتشكيل تماثيل للكثير من الرجال والنساء ، ثم قام بتجفيفها بالشمس ثم قام بنفخ الحياة فيها، وفي أساطير الانكا قام الإله الخالق فيراكوتشا بتشكيل البشر من الطين في محاولته الثانية لخلق المخلوقات الحية([4]).
(والأسطورة السومرية المتعلقة بخلق الإنسان هي أول أسطورة خطتها يد الإنسان عن هذا الموضوع، وعلى منوالها جرت أساطير المنطقة, والمناطق المجاورة التي استمدت منها عناصرها الأساسية, وخصوصاً فكرة تكوين الإنسان من طين, وفكرة تصوير الإنسان على صورة الآلهة. أما لماذا خلق الإنسان؟ فان الأسطورة السومرية لا تتردد في الإجابة على هذا السؤال ولا توارب، فالإنسان خلق عبداً للآلهة, يقدم لها طعامها وشرابها , ويزرع أرضها ويرعى قطعانها. خلق الإنسان لحمل عبء العمل ورفعه عن كاهل الآلهة. فمنذ البدء كان الآلهة يقومون بكل الأعمال التي تقيم أودهم وتحفظ حياتهم. ولكنهم تعبوا من ذلك فراحوا يشتكون لأنكي الحكيم, ليجد لهم مخرجاً ولكنه, وهو المضطجع بعيداً في الأغوار المائية, لم يسمع شكاتهم. فمضوا إلى أمه الآلهة “نمو” المياه البدئية التي أنجبت الجيل الأول من الآلهة , لتكون واسطتهم إليه , فمضت إليه قائلة:
((أي بني , انهض من مضجعك, انهض من. . .
واصنع أمرًا حكيماً
اجعل للآلهة خدماً, يصنعون لهم معاشهم
فتأمل إنكي مليًّا في الأمر، ثم دعا الصناع الإلهيين المهرةوقال لأمه نمو:
إنَّ الكائنات التي ارتأيت خلقها ستظهر للوجود
ولسوف تعلق عليها صورة الآلهة
امزجي حفنة طين من فوق مياه الأعماق
وسيقوم الصناع الإلهيون المهرة بتكثيف الطين (وعجنه)
ثم كوِّني أنت له أعضاءه
وستعمل معك ننماخ يدًا بيد
وتقف إلى جانبك عند التكوين ربات الولادة
ولسوف تقدرين للمولود الجديد – يا أماه- مصيره
وتعلق عليه ننماخ صور الآلهة في هيئة الإنسان. ))([5]).
تلك كانت مكانة الطين لدى الإنسان عند بداية تفتح مداركه واندهاشه بما حوله. هل أدرك بفطرته أنه مخلوق من طين؟ أم هو إلهام رباني أوحي إليه أنك مخلوق من الطين؟ ثم جاءت الرسالات السماويَّة موافقة لمعتقده القديم؟
الطين في الأديان
في اليهودية
(وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً). “التكوبن 2: 1- 7″. (وَكَانَ أَهْلُ الأَرْضِ جَمِيعًا يَتَكَلَّمُونَ أَوَّلاً بِلِسَانٍ وَاحِدٍ وَلُغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذِ ارْتَحَلُوا شَرْقاً وَجَدُوا سَهْلاً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ فَاسْتَوْطَنُوا هُنَاكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ((هَيَّا نَصْنَعُ طُوباً مَشْوِيّاً أَحْسَنَ شَيٍّ)). (فَاسْتَبْدَلُوا الْحِجَارَةَ بِالطُّوبِ، وَالطِّينَ بِالزِّفْتِ. ثُمَّ قَالُوا: ((هَيَّا نُشَيِّدْ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجاً يَبْلُغُ رَأْسُهُ السَّمَاءَ، فَنُخَلِّدَ لَنَا اسْماً لِئَلاَّ نَتَشَتَّتَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ كُلِّهَا)).”التكوين 11: 1 – 4”.
في المسيحية
(بَينَما هوَ في الطَّريقِ، رأى أعمى مُنذُ مَولِدِهِ، فسألَهُ تلاميذُهُ: ((يا مُعَلِّمُ، مَنْ أخطأَ؟ أهذا الرَّجُلُ أم والداهُ، حتى وُلِدَ أعمى؟))، فأجابَ يَسوعُ: ((لا هذا الرَّجُلُ أخطَأَ ولا والداهُ. ولكنَّهُ وُلِدَ أعمى حتّى تَظهَرَ قُدرةُ اللهِ وهيَ تَعمَلُ فيهِ علَينا، ما دامَ النَّهارُ، أنْ نَعمَلَ أعمالَ الّذي أرسَلَني. فمتى جاءَ اللّيلُ لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَعمَلَ. أنا نُورُ العالَمِ، ما دُمتُ في العالَمِ((. قالَ هذا وبَصَقَ في التُّرابِ، وجبَلَ مِنْ ريقِهِ طِينًا ووضَعَهُ على عَينَي الأعمَى وقالَ لَه: ((إذهَبْ واَغتَسِلْ في بِركَةِ سَلوامَ)) (“أي الرَّسول”. فذَهَبَ واَغتَسَلَ، فأبصَرَ. وكانَ اليَومُ الَّذي فيه جَبَلَ يسوعُ طينًا وفَتحَ عيَنَيِ الأَعمى يَومَ سَبْت. فسأَلَهُ الفِرِّيسيُّونَ أَيضًا: ((كَيفَ أَبصَر؟)). فقالَ لَهم: ((جَعَلَ طينًا على عَينَيَّ ثُمَّ اغتَسَلتُ وها إِنِّي أُبصِر. . . )). (يوحنا 9: 1 –6، و14 – 15).
في الإسلام
قال تعالىٰ في محكم كتابه الكريم: “أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِـﺌَـايَةٍ مِّن رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ اْلطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُوْنُ طَيْرَﻡا بإذن اْلله” آل عمران: ٤٩، وقال عز من قائل: “وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي” ۖالمائدة: ١١٠. وعن جبروت فرعون قال جل وعلا: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـٰأيها اْلْـمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إلَـٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَـٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى اْلـّطِيْنِ فَاْجْعَلْ لِّى صَرْحًا لَعَلّـىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوْسَىٰ”. القصص: ٣٨. وقال تقدست أسماؤه: “فَاْسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَـٰاهُمْ مِّنْ طِينٍ لَّازِبِ”. الصافات: 11. قال تعالى: “هُوَ اْلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ” الأنعام: 2.
الطين في الأدب
فَضلنا النَّاسَ أَنَّا أوَّلوهُم
وَأَنَّ مَكارِمَ الأَخلاقِ فينا
أَباً فَأباً إِذا نَحنُ اِنتَسَبنا
إِلى أَنْ تَبلُغَ الأَنسابُ طينا
المرار الفقعسي
___
يُهَيِّجُني لِذِكري آلِ لَيلى
حَمامُ الأَيكِ ما تَضَعُ الغُصونا
كَأَنَّ البَدرَ لَيلَةَ لا غَمامٌ
عَلى أَنماطِها حَرِجاً رَهينا
وأَنَّ المِسكَ دُقَّ لَها فَصيغَت
عَلَيهِ يَومَ كانَ الناسُ طينا
رؤبة الثعلبي
___
بَنى لي عادِيا حِصناً حَصينا
وَعَيناً كُلَّما شِئتُ اِستَقَيتُ
طِمِرّاً تَزلَقُ العِقبانُ عَنهُ
إِذا ما نابَني ضَيمٌ أَبَيتُ
وَأَوصى عادِيا قِدماً بِأَن لا
تُهَدِّمْ، يا سَمَوأَلُ، ما بَنَيتُ
وَبَيتٍ قَد بَنَيتُ بِغَيرِ طينٍ
وَلا خَشَبٍ وَمَجدٍ قَد أَتَيتُ
السموْأل بن عاديا
___
كَيفَ الجُحودُ وَإِنَما خُلِقَ الفَتى
مِن طينِ صَالصالٍ لَهُ فَخّارُ
أمية ابن أبي الصلت
___
خُلِقْتُ طِيناً وَماءُ الْبَحْرِ يُتْلِفُهُ
وَالْقَلْبُ فِيهِ نُفورٌ مِنْ مَراكِبِهِ
فالْبَحْرُ خَيْرُ رَفيقٍ بِالرَّفيقِ لَهُ
وَالبَرُّ مِثْلُ اسْمِهِ بَرٌّ بِرَاكِبِهِ
ابن رشيق القيرواني
رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللَهَ أَنشَأَهُ
مِسكاً وَقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طينا
أَو صاغَهُ وَرِقاً مَحضاً وَتَوَّجَهُ
مِن ناصِعِ التِبرِ إِبداعاً وَتَحسينا
ابن زيدون
___
نسي الطين ساعة أنه طِـ
ـينٌ حقير فصال تيها و عربد
وكسا الخزّ جسمه فتباهى
وحوى المالَ كيسُه فتمرّد
إيليا أبو ماضي
_________
([1])أخطاء وقصور في بعض المعاجم والقواميس، محمد عبد الرزاق القشعمي، إصدار نادبي الأحساء الأدبي، 2017م.
([2])الرباط: https://chl.li/0MDzq .
([3]) سفر التكوين البابلي، الكسندر هايدل، ترجمة سعيد الغانمي، منشورات الجمل، كولونا، ألمانيا، بغداد. الطبعة الأولى، 2007م، ص: 100 – 102.
([4]) خلق الإنسان من طين، موسوعة “كشاف<، موسوعة إلكترونية، موقعها على الإنترنت، الرابط: https://chl.li/98K69
([5]) مغامرة العقل الأولى، دراسة في الأسطورة- سوريا وأرض الرافدين، فراس السواح، دار علاء الدين، للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، الطبعة الثالثة عشرة، 2002، ص: 45 – 46.