[5] قبس من سماء رمضان العدل قيمة إنسانية
رانية الشريف العرضاوي* |
{ولا يجرِمنّكم شنآنُ قومٍ على ألا تعدِلوا اِعدِلوا هوَ أقربُ للتقوى} المائدة/8:
تحمل الآية الكريمة توجيها لقيمة عزيزة؛ هي قيمة العدل مع العدو المُبغِض. وكما هو معلوم بأنّ إقامة العدل في حدّ ذاته قيمة جليلة، هي أساس استقامة الحياة وإعمار الأرض. وفي إقامته عند الحكم على المبغض المعادي اختبار عميق المهوى، فيه تمكين للنفس التقية من مرابض الإيمان الحق. وفي التعبير القرآني هنا لطائف لغوية، منها: مجئ النهي في صيغة الفعل المسبوق بلا الناهية (لا يجرمنّكم)، وأصل الجَرْم قطع الثمرة من الشجرة، والجرامة ردئ التمر، ويضيف الراغب: “اُستعير ذلك لكل اكتساب مكروه”. والجريم التمر اليابس، فيكون بذلك فعل استجلاب المؤمن لدائرة الظلم هو شكل لحمله على قطع خير هو منه منتظر. فالمؤمن هو أشبه الناس (بالنخلة) كما ثبت في المدوّنة النبوية، وما تشبيهه بها إلا لشراكته معها في الخير والعطاء. ولا يغيب عن الذهن ارتباط العربي بهذه الشجرة تحديدا في يومه وحياته منذ أن وُجد، وفي الأثر عند السيوطي في الجامع الصغير: “أكرموا عمّتكم النخلة”، وعلى ما فيه من كلام، بيد أنه يصور النخلة رديفة متصلة الكينونة بوجود الإنسان العربي الذي عرف بإيمانه تسامح العطاء غير المنقطع. فيكون دفعه وحمله على فعل أمر مكروه غير محمود هو جر لدائرة (الجرم) الذي هو قطع العطاء المتوقع منه والمعتاد من فعله. وهكذا يتجلّى الفعل (يجرمنكم) في صورة تبغيضية له، تحت صيغة النهي الجلي المباشر. ثم تتلوه الكلمة التي تستوقف العين طويلا: (شنآن)؛ وهي العلة التي قد تسبب القطيعة المنهي عنها بين المؤمن وفعل الخير الذي هو في السياق هنا العدل. وشنأ أي البغض، ومنها (شانئك) أي مبغضك وعدوك. والشنوءة: التقزّز من الشيء، والتباعد، وشانه عابه، وشنّ الحرب أتى بها من كل مكان، وذئب شنون أي جائع، وشنّ الجمل إذا عطش. وظاهر الكلمة وباطنها يطوفان في مدار ثلاثة معانٍ: البغض، والتباعد، والأذى. فشنآن القوم هو أمر يحمل نفورا شديدا موجها بعداوة وبغضاء؛ بله أذى متوقع الحصول من كل جهة. وتأمّل معي مثلا، شنّ الجمل إذا عطش. فالجمل إذا عطش لوقت طويل يصبح فمه يابسا جافا، وهذا كقول الشائن الجاف المعيِّب. وهو الذي يخزن الماء في الدم، ويستمد طاقته من دهون سنامه، وهذا كحال المبغِض الذي يجدد كرهه. وهو المشهور بذاكرة حديدية تحثه على الانتقام من عدوه ولو بعد حين، وهذا ما جعله مضربا للحقد كما الصبر. وهذا كحقد العدو وانتقامه. وبالتالي يكون شنآن القوم في السياق هو حال قوم شديدي العداوة والبغض، وبشر وأذى ظاهر، ورغم ذلك كله؛ لا يكون هذا الحال علة مقبولة لقطع خير عدل المؤمن في حكمه عليهم : ( على ألا تعدلوا) فمهما كان عدوك مبغضا جائعا لأذيتك، فهو يستحق العدل منك في الحكم عليه. وهذا مقام عظيم جدا، هو (أقرب للتقوى). ومثل هذا مقام يستدعي لفتة حق في فهم المنظومة الأخلاقية الإنسانية في الإسلام؛ فمطلب العدل مع العدو قيمة لا تكون سهلة التطبيق، لما للنفس من حظ الانتقام والتشفي حال التمكّن من العدو. فلمّا يجعل الإسلام هذه الخصلة جسرا للتقوى قريب التحقق منها، يصبح الفرد المأمور بها قبل كل شيء إنسانيا في تعامله مع كل الفئات؛ العدو والصديق. ومن جهة أخرى، إذا كان حال العدل مع العدو الذي ظهر شره مطلبا تقرّه الآية الكريمة؛ فهو في حق أولياء الله المؤمنين أشد طلبا وإلحاحا. فيكون مستنتَجا دون ذكره من حال الآية الكريمة، وانظر في المقامين إلى سماحة الدين وجليل توجيهه. فهو لم يصرّح بأمر العدل مع المؤمن النظير وكأنه مُسلّم به مُتحقق؛ بل أكد على ما تكون فيه النفس منازِعة للعدل بسلاح الانتقام من عدوها الذي تمكنت منه لتحكم فيه وله. وانظر في ذلك لعدل العدل جلّ شأنه في كل هذه الدلائل، ثم قف مع نفسك يوم تتمكّن من عدوها وعدوك، وكن قريبا للتقوى.
والله أعلم.
_____________
*أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.