[6] قبس من سماء رمضان براءة حوّاء من تحريض آدم
الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*
{فدلّاهُما بغرور فلمّا ذاقا الشجرةَ بدَتْ لهما سَوآتُهما وطَفقا يخصِفانِ عليهما مِن وَرقِ الجنّة}. الأعراف/22:
في التلاقح الحاصل بين الثقافات والتداولات المعرفية اليوم، قد يتسرّب شيء من تفاصيل حكاية آدم وحواء عليهما السلام الواردة في سفر التكوين – الجزء الخاص بحكاية الخلق في التوراة- فيحصل في بعض الأذهان خلط شديد في فهم القصة الواردة في القرآن الكريم.
فكما هو معلوم بأنّ القصة في التوراة غير التي في القرآن الكريم؛ فالتوراة تحكي عن قصة عامرة بالبغض والغضب والصراع والحرمان.
وفي القرآن الكريم، يرد العفو والغفران والتوبة والعناية من الخالق -تعالى- تجاه آدم وحواء حتى بعد حصول المعصية.
وبالعودة إلى سفر التكوين؛ يُذكر أنّ الشجرة المحرمة هي شجرة المعرفة التي بها يحصل التمييز بين الخير والشر، وهي التي أغرت بها الحيةُ حواءَ الضعيفةَ التي ابتدأت الأكل وتبعها آدم؛ فاستحقا الطرد واستحقت الحية اللعنة الأبدية.
بل إنّ جيمس فريزر يذكر في كتابه (الغصن الذهبي) أنّ التوراة ذكرت شجرتين في القصة: شجرة المعرفة التي ذاقا منها، وشجرة الحياة التي لم ينتبها لها فحجبتها حراسة الملائكة. بل يشير إلى صورة غضبية حاصلة عند الإله -على حد قوله- بسبب حصول الإنسان على المعرفة.
وتصبح حواء في حكم المدوّنة التراثية عندهم متّهمة دوما بالغواية، والحية رمز الشر المتجدّد بتجدّد جلدها وتغييره.
هذه الحكاية التي تظهر صورة تناقض تماما حقيقة ما أخبرنا به القرآن في مواضع عديدة عن القصة الأولى، فالقرآن الكريم يجلّي لنا ما هو بعيد كل البعد عن أسطورة مُختلَقة، فيها تظهر سيطرة خيال الإنسان، واختلاطه بقصص تلبست بحكايات اليونان والبابليين عن الآلهة الوثنية، وصراع الإنسان القديم معها.
والقرآن واضح في ذلك: (فدلّاهما بغرور) حيث صوّر لنا طبيعة آدم البشرية التي قادته للخطأ بوسوسة من عدوه إبليس، وهي طبيعة تشي بمفارقته لجنس الملائكة. ثم توبته وزوجه عن ذلك.
وبالعودة للآية في سورة الأعراف؛ يأتي الفعل (دلّى) بقيمة دلالية عجيبة؛ فمعنى يدلّي أي ينزل ويعلّق ويوقِع، وجاء عن الأزهري: “التدلّي أصل الرجل العطشان يدلّي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء. فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه”.
ومن هنا؛ يكون إيقاع آدم وحواء من رفعة الطاعة إلى دنو الخطيئة، وذلك بعامل جذب من تزيين إبليس وزخرفته، ولا ذكر للحية في السياق البتة. من جهة ثانية، الضمير (هما) الواقع في محل نصب المفعول به، هو عائد على آدم وحواء معا دون تراتبية أو تبعية؛ وهو ما يبعد تهمة الغواية عن حواء لآدم.
ثم تأمّل معي: (بغرور)؛ فالغرور هو كل ما يغرّ الإنسان من مال أو جاه في ظاهر معناه. وفيه الغُرة أي مقدمة الشيء وأوّله، وتكون الغُرة في مقدّمة الرأس، وكأنّ السقوط في الخطيئة هو جذب لمهانة تلحق بالجبهة التي هي مكمن كرامة الإنسان. فلا عزّ مع معصية ولا ذلّ مع طاعة. فكان فعل الوالدين آدم وحواء مستحقّ لعتب الله، وكان منهما التوبة ثم الاستخلاف في الأرض.
ولم تكن الشجرة المحرّمة ابتلاء محدّدة الجنس في القرآن، بل معرفة معلومة العلامة في كل سياق جاءت فيه. وتغرير إبليس اللعين كان مقرونا بأمرين: القسَم الذي صدَقه آدم، والوعد بالخلد أو أن يكونا ملكين. والخلد أرقٌ لازم الإنسان من امتحانه الأول، حتى عرف النقش والكتابة؛ فهدأت نفسه عنه قليلا؛ فما يدونه هو رسالة تخليد يعوض فيها إذعانه لقدرية الموت، وشاهد ذلك حرصه الغريب على طول العمر وصرف مظاهر الهرم عنه بكل ما يتأتى له رغم يقينه بحتمية الفناء. وبذلك، يكون الفهم السليم للقصة بصرف تهم كثيرة قد يتساهل الناقلون للقصة في دسها مزاحا أو جهلا، وأشدها تهمة حجب الخالق -تعالى عن ذلك سبحانه وبحمده – المعرفة عن الإنسان، وهو الذي رفع قدر العلماء في القرآن الكريم في مواقع كثيرة.
وكذلك تهمة احتقار المرأة والتقليل من شأنها بربطها بغواية حواء وإطار الفتنة، والقرآن بعيد عن ذلك كل البعد، والشواهد كبيرة يقصر عنها هذا المقام.
والله أعلم.
——
* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.