مسرحة المعالم عند إبراهيم نصرالله | قراءة موجزة لـ “طلقات الرحمة”
محمد آل عمير
تضفي مشاعرك على عوالم بصرية تتجه نحو قافية المشهد الكامن في داخلك، باتجاه مكنون فؤادك عبر تحولات منطلقة من هـدوء يشبه الكلام؛ هـدوء يشبه الهمس؛ وبهـدوء يشبه البوح؛ وناحية الكـلام حينما يقرأ الصمت؛ ناحية الـبوح حينما يقرأ الهمس؛ – وفي نهاية الجادة – ناحية الـهمس حينما يقرأ المناجاة.
كل هذه التحولات – المغلفة بالمعالم البصرية – التي تتخذ لها دورًا فيما تراه في الواقع وفيما ترسمه في المخيلة؛ تتحول إلى معجم تسير عليه أنت ويحدد اتجاهاتك في واقعك ومعاني التكيف معه ضمن مساحات الأرض في إطارها المتجذر والشامخ؛
بين ثقل العالم عليك حينما ينطق وأنت تقف – لظرف زمان قسري – عاجزًا عن الكلام في كومة الصخب الهارب من الواقع المنطلق ناحية الواقع مجددًا؛ سالكًا رصيف يشبه الرصيف القديم راسمًا في عينيك فجواتٍ كبرى تتسع فيها الصراعات ولا تهدأ حتى يعدو الكلام الهادئ الذي تريد أن تستنطق؛ – الذي يبدد صراعات النفوس – يصبح عنوانًا للسخرية من آخرين،
وعنوانًا للتثاقل على تكوين ثيمة تاريخية لمنظور التفكير في الأولويات لديك، وفي الطرق المتاحة أمامك؛ بنظرة إما محاطة بفوضى صاخبة أو – في مجرى الكلام الهادئ – محاطة بنوافذ مضيئة تهمس بإطارها العتيق تارة وتنطق بالمناجاة الهادئة تارة أخرى؛
لذا ستلجأ للاستعارة من العبارات والأشياء من حولك التي تعبر لك عن كيانات مختلفة متعددة الدلالات ومحاطة بالعوالم الواقعية التي تعيش والتي تعطي لأولوياتك قيمة ومعنى؛ ستندفع حينها نحو كتابة ما تبقى من سيرة (الملاذ) في مجابهة (المنفى)؛ نحو ما تبقى من حكاية (الرفيق) في مجابهة (الضيق)، بالإضافة إلى (الغصة) المحاطة بـالعزلة القسرية التي تدفعنا نحو ترك العالم لوحده – قليلًا من الزمن –، وأن نعيش مع العالم – في ذات الوقت – لوحدنا دون أي صخب مصاحب إلا من إيقاعات النفس وتأويلاتها لما تراه وتتأمله؛
وكل هذا المسير سيكون ضمن قافية موزونة مع صفحات الوقت تنتهي بمدى قصير لتبدأ استئناف واقعها المُعاش من جديد بنظرة اجتماعية تساهمية متعايشة مع الناس الذين ينشدون السلام والطمأنينة مع الولوج نحو تحديث بواعث النفس للتغيير للأفضل في احتواء ما تراه وتطويعه بما يكفل ضرورات الارتقاء بقيم تنشدها الأرض وتنتظر البناء القوي المتين لهذه المعمورة بها؛
وفي تأمل المشاهد بصورة أوسع بعدسة أوضح نجد أن الكلمات المتشكلة برصيد السنين وغبار الزمن ورياح الأيام هي ما تجعلنا أكثر إدراكًا بطبيعة الأشياء التي تعيش فينا ونعيش معها،
يتخذ إبراهيم نصر الله له أسلوب الرمزيات متعددة الدلالات؛ يحاول أن يستنطق بواعث الكلام بمسرحة المعالم؛ حيث للمعالم التي نراها ونألف وجودها في واقعنا ما هي إلا أبطال وممثلين لواقعنا على منصة حياتنا وخشبة جذور أفكارنا وأحلامنا وأمنياتنا، يقرّب إليك في بعض وقفات القصيد المغلف بالنثر ثنايا ولوج المعالم في أعماق تفكيرنا؛ في بلاغة التشبيه الذي يحرك المساحة الفراغية في هندسة مداركنا؛ يراك كم يبدو الإنسان حائرًا محاطًا بالمتاهات وقد يكون نكرة لذاته أو نكرة للآخرين أو نكرة للجمادات؛ حتى يبدد هذا التنكر عن محياه بتجليات الإدراك والمعرفة الحدسية للأشياء؛ يتعلم من الجمادات، الطبيعة، الكائنات الحية، قسمات وتفاصيل الأشياء ما يبدد عن التيه الذي يعيش في فضاءاته | يقول نصر الله :
“في البدايةِ
قالت الخيلُ: أريد سهولًا
قالت النسورُ: أريد القمم
قالت الأفاعي: أريد جحورًا
.. وظلَّ الإنسانُ حائرًا!!”
وتعقيبي على النص الشعري: أرأيت كيفما تحيطك الحيرة، مأخوذ أنت بتعب الحكاية في المصير والمسير، لكنك سرعان ما تربت على عينيك نجوم الليل وتسير معك لتبدد حيرتك؛ وأنت سرعان ما تنسى أنك كنت يومًا باسمًا مع مد البحر حينما يحتويك أمام الزبد المتراكم الذي غطى نصف جسدك حينما كنت متكئًا على رمال الساحل الهادئ؛ وأنت تبكي ما بين الفجر وبزوغ الشمس؛ لا بشر بجوارك يسمع إيقاعات الدمعة أو أنين نجواك؛ لكنك نسيت ذلك البلسم الذي غمرك بحبه وشغفه حينما أراك ما يثلج الصدر ويسندك لتواصل الدرب من جديد.
تتكثف أنت حينما تستجمع قواك الخفية؛ حينما تواصل مثابرتك في الوصول لهدفك البعيد؛ وحينما تقترب من هدفك تشاهد المدينة التي سترى فيها آمالك ولكن هذه المدينة ربما يكون موقعها في صمامات قلبك ناحية مجرى الدم عند التقاطع الذي يصل بك إلى السيالات العصبية في خلايا مدراكك باتجاه المخ جهة النصف المفعم بالحقيقة والبرهان والمنطق وفي هذه اللحظة قد تنسى أنك كنت وحدك مع البحر تتكئ على كتفه في هذه المدينة التي تعيش داخلك؛ ولم تتساءل عما إذا كان البحر يحتاج أن تنصت معه؛ أن تحتوي بحبك حنايا إيقاعاته في سلالم الموجة السائرة نحو الآفاق.
يقول نصر الله:
“كم من مدينةٍ
بكت طويلًا على كتفِ البحر
وكم من موجةٍ
لم تجد هذهِ الليلةَ
كتفـــــاً
تبكي عليه ؟!!”
منطلقًا أنت نحو (الحاجة) التي تبحث عنها؛ نحو (الدمعة) التي تبدد عنك ضجيج المآسي من حولك؛ عن (الغصة) التي حينما تجرعتها ذات يوم ملبد بالهموم؛ كنت وحدك تبحث عن كل ما يرتبط بالتاء المربوطة التي لها نقطة للعيش مع حزنك ونقطة للتكيف مع الآهات لتكون وجهة مفتوحة تحتويك وتحتوي آمالك معها: التاء المربوطة قد أحاطت بك بشبه دائرة لتكون أنت أمام الناس مبتسم، منطلق بالحياة؛ تاركًا اليأس خلفك والهمة أمامك وتصمت لوهلة من الزمن لتستريح بعد بحثك المضني عن (الحاجة) التي قادتك لـ (الهمة) التي تريد.
يقول إبراهيم نصر الله:
“أحيانـــــــاً
أبحثُ عنكِ
فقـــــطْ
لأصمتَ معكِ”| حاجة
مأخوذ أنت بتحولات هذه الحياة في رؤى ذاتك؛ في دروب محياك على أرصفة متعددة الوجهات؛ في مرسى ضميرك الذي يحدد من تكون ومن أنت وكيف ستكون آخر مشوارك الطويل ورحلتك القصيرة، تكتشف أنك في مسارات سننيك مصيرك إلى وجهة تنتظرك؛ إلى مكان سيراك في يوم ما قريب منه ومحاطًا في ترابه اللامرئي في نهاية الدرب من أعين الناس الذين يرحلون عنك وترحل عنهم
يقول نصر الله :
“كأنَّ الحياةَ حفلةٌ
وكأنّه نجمُها الكبير
هـــكذا يتقــدمُ المــوتُ
واثقًا في النهاية “| النجم
ويقول أيضًا عن الموت كمفردة حتمية في النهايات :
“وما الذي رآه الغراب
كي يرتدي السّواد
طـــــــوال هذهِ القرون؟! “| حدَاد
….
ستشاركك كائنات في رحلتك الأخرى؛ في مكانك الآخر؛ في عملك الذي ستحمله معك ضمن حقيبتك التي ادخرت فيها زاد أفعالك وأقوالك.
يقول إبراهيم:
“بخضـرتها التي تضـــئُ المكان
وحدها الأشـــجارُ
تعرف السِّــــر:
ذهبتْ أَم لــم تذهب إليـه
آخر الأمـر مُرغمًا سيـــجيء “| حقيقة [ الموت ]
….
“المســـــــــــافةُ بين الحديقةِ
وزهريَّةِ الـبيـــت
جنـــــــازةُ الوردة “| مثلًا
وفي النهاية أختم بكنايات لطالما أحب أن يغرسها في بذور الكلمة والحرف وفي الشعر والنثر، ومن الملاحظ أن إبراهيم نصر الله مرتبط بتوظيف ما يريد قوله أو ما ينوي الكتابة عنه بالمفردات الدالاتية يوظف كل ذلك في الثيمة المكثفة للنص عبر “الريح “
يقول الشاعر نصر الله:
“الريحُ خيطٌ غامضٌ يصلُ الجهاتِ الموهَنَةْ
يصلُ الحنينَ بأرضهِ
يصلَ الغريبَ بظلِّهِ
ويخيْطُ في صمتٍ جراحَ الأزمنةْ
الريحُ أعمدةٌ وأروقةٌ عواءُ جارحٌ أو دندَنةْ
وخطوطُ فهدٍ نائمٍ في بحرِ شمسٍ ساكنةْ
الريحُ بحرٌ يستغيثُ على شواطَئ في بلاد آسِنةْ “| الريح
هنا يقف نصر الله في سرد الأمكنة بضمائرها وأفعالها؛ وتوصيف الكائنات بأنماطها وتحولاتها؛ وجعل الكناية للأشياء تنطلق بـ(صفة) توصف “فعل “الشيء للإنسان و (حال) يوصف “الاسم “الذي يتعلق به الإنسان ليرى المعالم التي في منصة هذه الحياة بأكثر من نظرة وأكثر من وجهة كلٌ حسب آدميته ولغة مشاعره وضميره المستتر في مسيره على أرصفة هذه المعمورة وفي ظل الريح والظلال والشجر والتراب والمقاعد وكل ما يرتبط بالإنسان من رسم صورته التي يراها ويتأمل في معجم معناها ودروسها التي تتسع ولا تضيق.