جريمة الكذب على الدين
الشيخ حسن الصفار
مما انفرد به فقه الإمامية ذهاب معظم فقهائهم من قدماء ومعاصرين إلى أنّ من مفطّرات الصوم تعمّد الكذب على الله أو رسوله أو الأئمة (ص)، سواءً كان الكذب متعلقًا بأمور الدين أو الدنيا.
بعض الفقهاء جزموا بذلك على نحو الفتوى، وبعضهم على نحو الاحتياط الوجوبي. ولم يقل بذلك أحد من فقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى.
واستدلوا على هذا الحكم بروايات معتبرة السند عن أئمة أهل البيت (ع) كموثقة أبي بصير عن الإمام الصادق (ع): “أَنَّ اَلْكَذِبَ عَلَى اَللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى اَلْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، يُفَطِّرُ اَلصَّائِمَ” . [وسائل الشيعة، ج7، ص21، ح4]
فمن تعمّد الكذب على الله أو رسوله أو أحد الأئمة أثناء الصوم فقد بطل صومه، وعليه القضاء، وبعض الفقهاء أوجب عليه القضاء والكفارة، بأنّ يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينًا، وبعضهم يرى أنّ عليه الجمع بني الكفارتين؛ لأنه أفطر على محرّم.
أقبح الكذب
وهذا يشير إلى خطورة وشدّة قبح الكذب على الله ورسوله والأئمة، ولا شك أنّ الكذب بشكل عام وعلى أيّ أحد مما يحكم العقل بقبحه، وهو محرّم، بل إنّ حرمته من ضروريات الدين، قال الشيخ الأنصاري: (الكذب حرام بضرورة العقل والأديان).[ الشيخ الأنصاري: كتاب المكاسب، ج2، ص11]
وحين يكون الكذب على الله ورسوله والأئمة فلا بُدّ وأن يكون أشدّ قبحًا وحرمة؛ لعظيم مقام المكذوب عليه، ولأنه تحريف في الدين، وإضلال للناس.
لذلك وردت في القرآن الكريم عشرات الآيات التي تحذّر من الكذب والتحريف في الدين.
يقول تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
ويقول تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} .
ويقول تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
التحذير النبوي
وقد حذَّر رسول الله (ص) من الكذب عليه بأشدّ تحذير في أحاديث كثيرة، من أشهرها ما رواه أمير المؤمنين علي (ع): “وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ (ص) عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ اَلْكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ اَلنَّارِ ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ” .[ الكافي، ج1، ص62]
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن علي (ع) قال: قال النبي (ص): (لا تكذِبُوا عليَّ، فإنَّهُ مَنْ يكذبُ عليَّ فلْيلِجِ النَّارَ) [البخاري، ح106]، كما أخرج عدة أحاديث في نفس السياق رواها عدد من الصحابة. وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أنّ هذا الحديث ورد بإسناد صحيح بصيغ مختلفة عن ثلاثة وثلاثين من الصحابة، وبأسانيد مختلفة من صحيح وضعيف وساقط عن مئة من الصحابة، ونقل النووي أنه جاء عن مئتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه جماعة أنه متواتر.
منازعة لله وإضلال للناس
إنّ هذا التحذير المتكرّر من رسول الله (ص) إضافة إلى الآيات القرآنية يبيّن مدى خطورة هذا الأمر، فالدين تشريع من قبل الله تعالى، ولا يحقّ لأحدٍ أن ينازع الله تعالى في ذلك، يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴿٥٩﴾ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
والكذب على رسول الله كذب على الله، ورد عنه (ص): (إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليسَ كَكَذِبٍ علَى أَحَدٍ، مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .[ البخاري، ح1291]
ويرى الشيعة حجية حديث الأئمة (ع) كحجية حديث رسول الله (ص)، فالكذب عليهم كالكذب على رسول الله، وهو كذب على الله؛ لأنّ النتيجة تحريف الدين وإضلال الناس باسم الدين.
ومع كلّ هذه التحذيرات إلّا أنّ المحذور قد وقع، حتى في حياة رسول الله (ص) فضلاً عمّا بعده. وقد أخبر (ص) أنّ مساحة الكذب عليه كثيرة.
وأطلق العلماء على الحديث المنسوب كذباً إلى النبي (ص) أو أحد الأئمة مصطلح الوضع، ويسمّى حديثاً موضوعاً من الوضع، أي الحطّ والإسقاط، ومنه وضع الدّين، أي أسقطه، والضعة، أي الانحطاط واللؤم والخسّة.
وقد صنّف العلماء كتباً، وكتبوا أبحاثاً عن جريمة الوضع في الحديث، وفضح الوضّاعين، وأقرّوا قواعد وضوابط لفرز الأحاديث واكتشاف الموضوع منها.
دوافع الوضّاعين
ومن خلال دراسة العلماء لشخصيات الوضّاعين ودوافعهم في جريمتهم، تبيّنت عدة أسباب: منها: الدافع العدائي للإسلام من قبل مناوئيه؛ وذلك لتخريب الإسلام من داخله وإرباك أتباعه. كما صنع بعض اليهود والزنادقة.
ومنها الدافع السياسي لخدمة هذه السلطة أو تلك.
ومنها: الانتصار للمذاهب والفئات ضدّ بعضها بعضًا.
الوضّاعون الدّينيون
ونريد الوقوف عند سبب هو من أخطر الأسباب وهو الدافع الديني. بمعنى أن يقوم أحد بوضع أحاديث كاذبة ينسبها إلى رسول الله (ص) أو إلى أحد الأئمة (ع). وذلك بحجة تقوية الدين وتعزيز الحالة الدينية وتعظيم الشعائر الدينية. ويعتبرون قيامهم بهذا العمل احتساباً وتقرّباً إلى الله تعالى.
لكن كيف يبرّرون عملهم هذا أمام النصوص التي تحذّر من الكذب على الله ورسوله؟
لقد دلّهم الشيطان على مخرج وهو أنّ للحديث الشريف (من كذب عليّ) منطوقاً ومفهوماً غير المردوع عنه، وهو الكذب له.
قال ابن حجر العسقلاني: (ولا يعتدّ بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوّزوا وضع الحديث الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة، واحتجوا بأنه كذب له لا عليه… ولا مفهوم لقوله (عليَّ)؛ لأنه لا يتصوّر أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب، وقد اغترّ قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته) .[ فتح الباري، ج1، ص264]
إنّه التديّن الزائف، الذي دفع بشريحة من العلماء والزهّاد لوضع واختلاق أحاديث لغرض تشجيع الناس على الإقبال نحو الشعائر والممارسات الدينية، ولردعهم عن مخالفة بعض الأمور الشرعية، عبر اصطناع أحاديث للترغيب والترهيب، فمن صلّى هذه النافلة أو قرأ هذه السورة، أو أتى بهذه الشعيرة الدينية فله ألف قصر وألف حورية في الجنة، وآلاف الحسنات، ومن لم يقم بهذا العمل أصابه هذا البلاء وذاك الضرّر.
وضمن هذا السياق اختلقت أحاديث وأخبار عن معاجز وكرامات وهمية للنبي (ص)، أو لأهل البيت (ع)، أو لبعض الصحابة، وبعض أئمة المذاهب والطرق، وفي بعضها غلوٌّ فاضح، وذلك بمبرر توطيد ولاء الناس لقياداتهم الدينية.
الغطاء الديني
ولأنّ أفراد هذه الشريحة ضمن السلك الديني، وظاهرهم الصلاح والزهد، فإنّهم يتمتعون بثقة وقداسة في الأوساط الشعبية، توفّر لما ينتجونه ويبّثونه أرضية القبول والتسليم.
كما أنّهم يجيدون دغدغة المشاعر الدينية، واستثمار عواطف الولاء الديني، وبذلك يخلقون للناس ثقافة دينية زائفة، قائمة على الكذب والافتراء، تصرف الناس عن الاهتمامات الحقيقية، والأدوار البنّاءة لخدمة قيم الدين وإعمار الحياة. وتجعلهم يعيشون عالم الأوهام والأساطير والممارسات الطقوسية والشعائرية المتضخمة.
قال ابن الصلاح وهو من علماء الحديث (ت: 643هـ): «والواضِعُونَ للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين للزّهد وضعوا الحديث احتساباً فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركنوا إليهم» .[ معرفة أنواع علم الحديث، ص204]
وقد تبنّى مقولته مع تغيير طفيف الشيخ حسين بن عبدالصمد العاملي والد الشيخ البهائي .[ وصول الأخيار إلى أصول الأخبار، ص١١٥]
ومن أمثلة ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري: قِيلَ لأَبِي عِصْمَةَ (نوح بن أبي مريم توفي 173هـ): “مِنْ أَيْنَ لَكَ عِنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِ) فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ سُورَةٍ سُورَةٍ وَلَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِ عِكْرِمَةَ هَذَا؟، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَضَعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ حِسْبَةً .[ المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل، للحاكم النيسابوري، ص134]
وقيل عن غلام خليل: كان يتزهّد ويهجن شهوات الدنيا، وغلقت أسواق بغداد يوم موته، يسأل عن الأحاديث التي يحدّث بها، فيقول: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة .[ المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل، للحاكم النيسابوري، ص134]
وروي عن عبدالله بن المسوّر أنه: (كان يضع الحديث على رسول الله (ص)، وَلا يضع إلّا ما فيه أدب، أو زهد، فيقال له في ذلك، فيقول: إنّ فيه أجرًا) .[ لسان الميزان، ترجمة ابن المسور برقم 4463]
وفي كتاب (اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر) يتحدث الشيخ حسين النوري (توفي 1320هـ) صاحب مستدرك الوسائل، عن ظاهرة الكذب والاختلاق للروايات والأخبار على لسان خطباء المنابر الدينية، والمبررات التي تجرّؤهم على ذلك، فيقول: (في ذكر بعض الشبهات التي حملت هذه الجماعة، بل بعض أرباب التأليف، على نقل الأخبار والحكايات التي لا أساس لها، والروايات التي لا يحتمل صدقها، أو التي يكون احتمال صدقها في غاية الضعف، وعلى افتراء الكذب، وجعل الأخبار ووضعها، واختلاق الحكايات المتضمنّة للمصائب التي لا واقع لها، من أجل إبكاء المؤمنين وإضفاء الرونق على مجالس العزاء).
ويبيّن أنّ من ذلك: (ما نقل عن بعض مختلقي الكذب من الأخبار التي تمدح الإبكاء، وترغّب فيه، وما سُطّر في هذا المجال، مما يوحي بأنّ كلّ ما يحمل على البكاء، وما هو وسيلة للتفجّع وإسالة الدموع ممدوح ومستحسن، ولو كان كذبًا وافتراء).
ويضيف: (ولا يخفى على كلّ ذي شعور أنّ هذا النمط من الكلام خلاف ضروريات الدين والمذهب، وخروج عن الملة والإسلام. وجواب أصل هذه الشبهة مشروح في الفقه في كتاب المكاسب، ومجمله الذي يمكن إيراده هنا: أنّ المستحب مهما كان عظيمًا، لا يمكنه أن يعارض الحرام مهما كان حقيرًا، ولا يطاع الله من حيث يعصى، ولا يكون ما يوجب عقوبة الله وسخطه داعيًا للتقرب منه) .[ اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر، ص219 – 221]
تنقية التراث
وواجب الواعين من أبناء الأمة العمل من أجل ترشيد الخطاب الديني، والاعتراض على حالات الإسفاف والتضليل في بعض الخطابات، والانحياز إلى جهود الإصلاح وتنقية التراث مما شابه من تحريف وتزوير، إذْ غالبًا ما يدفع من يتصدّى لهذا الدور الإصلاحي من العلماء والخطباء والكتاب ثمنًا باهظًا، بسبب تأليب العامة عليه من قبل المناوئين للتصحيح والإصلاح، المستفيدين من السّوق الرائجة للأساطير والخرافات.
وقد حذّر الأئمة (ع) من الأحاديث المدسوسة في تراثهم، ورد عن هِشَامُ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِاللَّهِ (ع) يَقُولُ: “لا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا حَدِيثاً إِلَّا مَا وَافَقَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِداً مِنْ أَحَادِيثِنَا الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ دُسَّ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي أَحَادِيثَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا أَبِي، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَوْلَ رَبِّنا تَعَالَى وَسْنَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (ص)” .[ اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، ح401]