[تعقيب على تعقيب] خرائط بطليموس كانت موجودة.. والمسعودي شاهدها بأم عينه
عبدالخالق بن عبدالجليل الجنبي
قرأت التعقيب الذي تفضل به الأستاذ جلال الهارون في صحيفة صبرة بعنوان:
(تعقيب: أقدم خارطة رسمها بطليموس في عام 150م غير “موجودة”؛ كتاب المؤرخ الإغريقي الذي وصلنا بلا خرائط أصلاً).
وهو ردٌّ على مقالي في ذات الصحيفة بعنوان:
(أقدم خارطة في التاريخ ورد فيه اسم جزيرة تاروت؛ نسخة قديمة لبطليموس العائدة للعام 150 للميلاد).
وإنني إذ أشكر له قراءته لمقالي هذا، وتعقيبه عليه؛ فإنّ لي هذه الملاحظات على كلامه، وهي كما يلي:
يقول الأستاذ جلال، وأقتبس:
“يختم الأستاذ عبد الخالق مقدمته التعريفية بالحديث عن معلومة غاية في الأهمية وهي أن كتاب “بطليموس” كتب إبتدأً[1] باللغة اليونانية إلا أن جميع هذه النسخ الاصلية “مفقودة”، ونظرا لأهمية هذه العبارة “جميع هذه النسخ الاصلية مفقودة” رأيت أن اكتب تعقيبا يناقش هذه النقطة تحديدا“؛ انتهى الاقتباس.
وأقول: كان من المفترض يا أستاذ جلال أن تذكر عبارتي كاملة لا أن تختار منها ما تريده فقط، فأنا قلتُ نصّاً:
“وقد كتب بطليموس كتابه هذا باللغة اليونانية الإغريقية في القرن الثاني الميلادي؛ إلا أنّ هذه النسخة وكل النسخ التي نُسخت عنه باللغة اليونانية مفقودة الآن، ولكن قبل أن تُفقد كلها فقد تمّ – لحسن الحظ – ترجمته من اليونانية إلى العربية من قبل الكتاب المسلمين في القرن التاسع الميلادي“.
نعم النسخة الأولى التي كتبها بطليموس لكتابه الجغرافيا، وكذلك النسخ التي نُسخت عنه باللغة اليونانية هي المفقودة الآن مثلها مثل كثير من كتب العلماء اليونان، وليس جغرافيا بطليموس فقط، والفضل للكتاب العرب في حفظ كثير من هذه الكتب، وعليه، فكتاب جغرافيا بطليموس لم يُفقد من الوجود؛ بل تم حفظه ولكن بلغة أخرى هي العربية؛ التي تم إعادة ترجمته عنها إلى اليونانية مرّة أخرى.
ويقول الأستاذ جلال:
“ذكر الدكتور خالد العنقري أستاذ الجغرافيا وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود السابق في كتابه “الجزيرة العربية في الخرائط الأوروبية القديمة” عن ذلك قائلا: … أن خرائط “بطليموس” الأصلية فقدت ولم يعثر على أي منها حتى الوقت الحاضر، وأما النص المكتوب فقد فقدته أوروبا لعدة قرون، ثم عرف مرة أخرى عن طريق المسلمين الذين يعود إليهم الفضل بترجمته الأولى في عهد الخليفة العباسي المأمون في القرن الثاني الهجري“.
وبداية أقول: يبدو أنّ الأستاذ لم ينتبه إلى أنّ كلام الدكتور العنقري فيه ما يرد عليه قوله، فهو يقول – كما نقلَ عنه – وأقتبس:
” أن خرائط “بطليموس” الأصلية فقدت ولم يعثر على أي منها حتى الوقت الحاضر وأما النص المكتوب فقد فقدته أوروبا لعدة قرون، ثم عرف مرة أخرى عن طريق المسلمين الذين يعود إليهم الفضل بترجمته الأولى“. انتهى الاقتباس.
وكما تَرى، فالدكتور العنقري يعترف بوجود خرائط أصلية لبطليموس، ولكنه يرى أنها مفقودة، وهو ذات ما قلته أنا تماماً عن كتاب جغرافيا بطليموس أنّ المفقود منه هو النسخة الأصلية للكتاب مع خرائطه التي رسمها مؤلفه بطليموس باللغة اليونانية، وأن المسلمين هم الذين حفظوا لنا الكتاب بخرائطه بعد أن نقلوه إلى لغتهم العربية، فكلامي يتفق مع كلام الدكتور العنقري، ولا يختلف معه.
ثم يواصل الأستاذ جلال نقله عن الدكتور العنقري قوله، وأقتبس أيضاً:
“وثمة ترجمتان باللغة العربية لكتاب الجغرافيا أنجزت في عهد المأمون بعنوان “الجغرافيا في المعمور وصفة الأرض” أحدهما ترجمه الكندي وهي ترجمه لم تكن جيدة والأخرى قام بترجمتها “ثابت بن قرة” وهي ترجمه جيدة… انتهى“
فانظر يا عزيزي جلال كيف أنّ الدكتور العنقري يقرُّ بوجود ترجمتين لكتاب جغرافيا بطليموس أنجزتا في عهد المأمون للكندي وثابت بن قرّة، وأضيف لك وللدكتور العنقري – حفظكما الله – معلوماتٍ أخرى، وهي أنّ يوجد لكتاب الجغرافيا البطلمي ثلاث تراجم أخرى تُضاف إلى هاتين الترجمتين، وهي كالتالي:
- ترجمة محمد بن موسى الخوارزمي (توفي ت. 232هـ) بعنوان: (صورة الأرض)، وهي مطبوعة.
- ترجمة سهراب (القرن الرابع) بعنوان (عجائب الأقاليم السبعة)، وهو مطبوع.
- ترجمة ابن سعيد المغربي (توفي 685هـ) بعنوان (الجغرافيا)، وهو مطبوع أيضاً.
وأما قول الأستاذ جلال، وأقتبس:
“ومن هذا النص يتضح لنا بان الذي وصلنا من تراث العالم الاغريقي “بطليموس” فقط نص مكتوب، فُقد في البداية لقرون ثم عثر على ترجمه عربية منه في العصر العباسي، وبذلك لا توجد خرائط معروفة اليوم رسمت في عام 150م بيد العالم “بطليموس” يمكن الرجوع اليها“؛ انتهى الاقتباس.
فأقول إنّ هذا الكلامٌ فيه جَزمٌ بلا دليل، ومع ذلك لم يذكر الدكتور العنقري عدم وجود خرائط في ترجمتي الكندي وثابت بن قرّة اللتين ذكرهما حسب ما رأينا من كلامه الذي نقله الأستاذ مستشهداً به، فهو نفى وجود الخرائط الأصلية لكتاب جغرافيا بطليموس فقط، ولم ينفِ وجودها في النسختين العربيتين المترجمتين عنه للكندي وثابت بن قرّة.
المسعودي ينصُّ على رؤيته مصورات لبحار
وأقاليم الأرض في كتاب جغرافيا بطــليموس
ومن الواضح أنّ الأستاذ جلال لم يطلع على النصّ الصريح والواضح للمؤرخ والجغرافي الكبير علي بن الحسين المسعودي من علماء القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ حيث قال في كتابه (مروج الذهب):
“وقد ذكر بطليموس في الكتاب المعروف بجغرافيا صفَةَ الأرض ومدنها وجبالها وما فيها من البحار والجزائر والأنهار والعيون“.
إلى أنْ يقول:
“وهذه البحار كلها مصورة في كتاب جغرافيا بأنواع من الأصباغ مختلفة المقادير في الصورة، فمنها ما هو على صورة الطيلسان، ومنها ما هو على صورة الشابورة، ومنها مصرانيّ الشكل ومنها مُدور ومنها مُثلث“.
(انظر؛ المسعودي: مروج الذهب؛ الجزء الأول؛ الصفحة: 70 من طبعة المكتبة العصرية – بيروت).
وأزيد الأستاذ جلال خَبَرَاً آخرَ، وهو أنّ المسعودي رأى هذه المصورات ليس في كتاب الجغرافيا لبطليموس فقط؛ بل إنه اطلع عليها أيضاً في أطلس مارينوس الصُّوْرِيّ الذي قلتُ في مقالي السابق إنّ بطليموس نقَّحَهُ ونقل عنه في كتابه الجغرافيا، ولنستمع الآن للمسعودي أيضاً – في كتابه الآخر (التنبيه والإشراف) – ماذا يقول عن كتاب مارينوس الصوري هذا:
“قال المسعودي: بين الأسلاف والأخلاف من حكماء الأمم في مقادير هذه الأقاليم السبعة وأطوالها وعروضها وعدد ساعاتها وابتدائها وغاياتها وما فيها من مساكن الأمم في البر والبحر تنازع كثير، وقد أتينا على شرح كثير من ذلك فيما تقدم من كتبنا، ورأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الاصباغ، وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا لمارينوس.. وفى الصورة المأمونية التي عملت للمأمون اجتمع على صنعتها عدة من حكماء أهل عصره صور فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطلميوس وجغرافيا مارينوس وغيرها“.
فلينظر الأستاذ جلال إلى قول المسعودي إنه شاهد أقاليم الأرض “مصوّرة بأنواع الأصباغ” في غير كتاب يعني في أكثر من كتاب، ثم لينظر إلى قوله إنّ أحسن ما رآه منها كان في “كتاب جغرافيا مارينوس” وفي صورة الأرض التي عملها عدة من الحكماء بأمر الخليفة المأمون العباسي، وقد صَوَّروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره ومساكن الأمم والمدن، ثم لينظر أيضاً كيف أنه قال عنها إنها أحسن مما تقدمها من “جغرافيا بطليموس“، و”جغرافيا مارينوس“، وهذا دليلٌ واضح على أنّ هذين الكتابين الأخيرين كان فيهما صورٌ للأرض وأقاليمها، وهو ردٌّ صريح على قول الأستاذ في أنّ كتاب الجغرافيا لبطليموس لم يكن فيه خرائط؛ بل كان فيه ذلك، ومنها خارطة العربية السعيدة أي الجزيرة العربية؛ التي رُسمَ فيها، ثم في بحرها الشرقي جزيرةٌ لا يُخطئها البصر هي تاروت كما شاهدنا في الخارطة التي عرضتها في مقالي الأول.
وأما بقية ما ذكره الأستاذ من كلام الدكتور سلطان القاسمي، فلم يعد له موضع بعد أن سمعنا المسعودي، وهو من القرن العاشر الميلادي يعلنها صريحة برؤيته لخرائط مصورة في كتاب الجغرافيا البطلمي، فالمسعودي أقدم بكثير من تاريخ نُسَخِ الفاتيكان التي تحدث عنها الدكتور، وقوله يقطع قول كل خطيب.
عبد الخالق بن عبد الجـلـيل الجـنبي
القطيف – الخميس 8 يوليو 2021
[1] كذا كُتبت اللفظة، والصحيح في رسمها هو: ابتداءً.
اقرأ أيضاً