قراءة جديدة في حديث “من مات ولم يعرف إمام زمانه”
الشيخ علي الفرج
واحدٌ من الأحاديث المتَّفق عليها من حيث المضمون – شيعة وسنة – حديث (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) حيث ورد بصيغ متعدِّدة، كلّها – بحسب رأي أحد العلماء – ترجع إلى مقصد واحد، هو ما عناه رسول الله (ص)، من ضرورة وجود إمام في كلّ زمان يجب الاقتداء به، والأخذ بهديه.
من الصِّيغ التي وردت ما رواه مسلم في صحيحه [كتاب الإمارة: ج6 ص22]: “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.
وفي كتاب [السنّة، لأبي عاصم، ص489]: “من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية”.
أما الشيخ الكليني فقد أفرد له في كتاب الكافي بابًا خاصًّا في الجزء الأول ابتداءً من الصَّفحة 376.
وكأيِّ نصٍّ روائي، أو حتى قرآني، ليس بدعًا أن يكون هناك اختلاف في استنطاق مفهومه، كلُّ عالم أو قارئ يقرؤه بحسب ما تتوفر لديه من أدوات وقناعات لا تخالف بديهيات العقل والمنطق السَّليم. ومن هذا المنطلق، عندما قرأت الحديث بصيغة (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية) خطر في البال إجراء مزيد من البحث حول هذا الحديث وتدوين ما يتوصَّل إليه البحث.
فأولاً، كما أسلفنا، أنّ الحديث من المرويات الموثوقة عند الشيعة والسنة، ولكن اختلفوا في المقصود من مفردة (الإمام)، فالشيعة استقرَّوا بأنّ المراد هو الإمام المعصوم (ع)، ويؤيّد هذا صحيحة الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية؟ قال: نعم، قلت: جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه؟ قال: جاهلية كفر ونفاق وضلال). [الكليني، الكافي، ج1، ص377].
أما أهل السنة فقد ذهبوا إلى أنّ المراد منه حاكم الدولة، ويؤيّد هذا ما قاله أحمد بن حنبل: (والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البرِّ والفاجر ومن وَلِيَ الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به ومن عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسميّ أمير المؤمنين… ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقرُّوا له بالخلافة، بأيّ وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية). [أصول السنة، ص6].
وبغضّ النظر عن أيِّ الرأيين هو الحقُّ، فقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت (ع) تقيّد الإمام بصفة العدالة، لا كلّ إمام، عادلاً أكان أو غير عادل.
في حين أننا عندما نتأمل جيِّداً في الروايات، نرى استعمال كلمة (إمام) عن لسان أهل البيت (ع) تنقسم إلى قسمين أساسيين:
الأول: الإمام المعصوم (ع)، ففي مثل صحيحة ابن أبي نصر، عن أبي الحسن عليه السلام في قوله الله عزّ وجلّ: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) [القصص: 50]، قال: يعني من اتَّخذ دينه رأيه، بغير إمام من أئمة الهدى.
ونحن لن نبحث في هذا القسم؛ لوضوحه عند الشيعة، بل هو من الأمور المرتكزات الدينية التي لا تقبل المناقشة.
الثاني: الإمام من الله: في قبال الإمام الجائر، فعنوان (الإمام من الله) ينطبق بلسان أهل البيت (ع) على أنه القائد والمرجع الديني إذا كان عادلًا، فيكون معنى الإمام شخصية عادلة وعالمة، هو المعصوم (ع) وغير المعصوم (ع)، فنفهم من ذلك معنى (الإمام من الله) القائد والمرجع الذي يحتجّ به الإنسان على الله يوم القيامة، ويجيز الله الاحتجاج به، فهو حجة عند الله، وهو الذي يُدان إليه الناس، ونحن نطبِّق ما ورد عن أهل البيت (ع):
ـ صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: كلُّ من دان الله بعبادة، يجهد فيها نفسه، ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضالٌّ متحيِّر، والله شانئ لأعماله،.. والله يا محمد؛ من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله (عزّ وجلّ) ظاهرًا عادلًا أصبح ضالًّا تائهًا، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد؛ إنّ أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، قد ضلُّوا وأضلُّوا، فأعمالهم التي يعملونها «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» [إبراهيم: 18].
هذه الرواية تامة السَّند، وأما دلالتها على المراد هو قوله (من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله (عزّ وجلّ) ظاهرًا عادلًا)؛ لأنّ كلمة (ظاهرًا) تعني تجب إطاعة الناس للقائد والمهيمن على الناس والفقيه العادل، ولذلك فقد اشترط ألّا يكون مغمورًا.
وقوله (عادلًا) يعني لا ينجرّ إلى الشَّهوات البشرية، بل يخاف من الله ويتّقيه في السِّر والعلن، فلفظتا (الظاهر) و(العادل) دليل على شمول المعصوم (ع) والقائد العادل، فلو اختصّ بالمعصوم لم تكن حاجة لذكره بعد صيرورته من الارتكازات البديهية.
صحيحة حبيب السجستاني، عن أبي جعفر (ع) قال: قال الله تبارك وتعالى: لأعذبنّ كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية كلِّ إمام جائر ليس من الله، وإن كانت الرعية في أعمالها برَّة تقية، ولأعفونَّ عن كلِّ رعية في الإسلام دانت بولاية كلِّ إمام عادل من الله، وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة.
وهذا دليل على أنه أراد في قوله (كلّ إمام عادل من الله) يشمل المعصوم (ع) والقائد العادل، فيكون معنى الإمام من الله: القائد والفقيه العادل الذي يُرضي الله فيرضى الله عنه.
وتوجد رواية أخرى بالمعن نفسه، وهي رواية عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (ع) قال: إنّ الله لا يستحي أن يعذّب أمة دانت بإمام ليس من الله، وإن كانت في أعمالها برَّة تقية، وإنّ الله ليستحي أن يعذّب أمة دانت بإمام من الله وإن كانت في أعمالها ظالمة مسيئة.
ـ صحيحة عبدالأعلى قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: السَّمع والطاعة أبواب الخير، السامع المطيع لا حجة عليه، والسامع العاصي لا حجة له، وإمام المسلمين تمت حجته واحتجاجه يوم يلقى الله عزّ وجلّ. ثم قال: يقول الله تبارك وتعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) [الإسراء: 71].
شرح أصول الكافي – المولى محمد صالح المازندراني- ج٥ ص١٦١: قوله (وإمام المسلمين) إذا تحقَّق اللقاء وسأل الله تعالى كلّ إمام عن رعيته وكلّ رعية عن إمامها أتم الإمام حجته عليهم وأكملها لديهم، وليس لهم هنا طريق مناظرة ولا قوة مناقشة عنادًا وإنكارًا كما كان لهم في دار التكليف ودار الامتحان وعند ذلك يدعو الله تعالى كلّ أناس بإمامهم.
أقول: يُفْهَمُ من آية (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) عدم اختصاصها بالإمام المعصوم (ع) وأئمة الجور، بل هي تشمل العالم العادل، وهذا الفهم دقيق، وهو العالم العادل جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن.
وكذلك لا غرابة في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)) [فاطر]، فيطرح الله أمرين رئيسين في قانون إلهي في أمر كتاب الله:
الأول: هو وحي الكتاب، وهو مختصٌّ برسول الله (ص)،
والثاني: بعد الرسول (ص) ورثة الكتاب، وسيكون هذا غير مختصٍّ بالأئمة المعصومين (ع)، فيكون ورثة الكتاب ثلاثة أقسام من العلماء:
فالقسم الأول، الظالم لنفسه، وهو من يجيّر الآيات بحسب مصالحه الدنيوية.
والثاني، المقتصد، وهو العالم العادل الذي يحاول أن يجتهد في استنباطاته بحسب قدرته.
والثالث، وهو السَّابق بالخيرات، فيعلّم الناس ولا يخطئ بتأييد وبإذن الله، وهذا يختصّ بالأئمة المعصومين (ع).
وقد تحصل شبهة بـ (الاصطفاء) بأنه هو الأئمة المعصومين (ع) الذين اصطفاهم الله وعصمهم من كلّ الذنوب، ولكن يمكن أن يكون معناها الاختيار، والله اختار أن يكون للمسلمين عالم، وتكون الأنحاء الثلاثة المذكورة.
ونرجع إلى الروايات السَّابقة، وما يؤيّدها بروايات ضعيفة ولكنَّها قرائن مؤيِّدة، كرواية عبدالله بن أبي يعفور قال: قال أبو عبدالله (ع): لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله. قلت: لا دين لأولئك، ولا عتب على هؤلاء، قال: نعم، لا دين لأولئك، ولا عتب على هؤلاء.
ورواية أبي عبدالله الحسين الشهيد (ع): أيُّها الناس، إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه. فقال له رجل: يا بن رسول الله، بأبي أنت وأمّي، فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي تجب عليهم طاعته. [علل الشرائع: 1/ 9 ح1].
وكذلك ما روي عن أمير المؤمنين (ع) قال: اعلموا أنّ صحبة العالم، واتباعه دين يدان الله به، وطاعته مكسبة للحسنات، ممحاة للسيئات، وذخيرة للمؤمنين، ورفعة فيهم في حياتهم، وجميل بعد مماتهم.
نتائج ولمحات جديدة:
1ـ ما ورد عند الشيعة والسنة عن الرسول (ص): (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية)، ينطبق على أهل البيت (ع) وعلى القائد ومرجع الدِّين؛ وذلك لشمول اللفظ وإطلاقه، وإنَّما ينطبق على أهل البيت (ع) ولا يخصَّص بهم كما يقول علماء الأصول: المورد لا يخصِّص الوارد.
2- ذكر في الرّوايات الصحيحة لفظ (الإمام من الله)، يعني القائد والعادل الذي يفتي بالأحكام الشرعية، ونستدلّ به على شرعية التقليد بالآيات والروايات الصحيحة، وذلك لأنّ اسم الإمام من الله يلازمه وجود مأموم من الله، يعني التقليد الشرعي، وهذا يكون ردًّا على بعض الشيعة الذين يقولون إنّ التقليد ليس واجبًا شرعيًّا، وقد نشطت هذه الفئة في مدن العراق، وأرادوا بها الابتعاد عن المرجعية، وهذه الروايات الصحيحة قد تؤخذ كدليل مستقلٍّ غير الدليل العقلي وهو الرأي المشهور في حجية التقليد وهو رجوع الجاهل للعالم، وهو الذي يذكره الفقهاء ويركزون عليه تركيزًا كبيرًا، وربما هو الدليل الوحيد عند بعضهم، ويذكرون دليلًا ثانيًا هو السيرة العقلائية، فنضيف نحن دليلًا ثالثًا جديدًا، وهي الروايات التامة ليدخل بنفسه في الاستدلالات.
3- الظاهر أنّه يجب أن يُقلِّد المكلف إمامًا واحدًا، إلّا أن يكون ليس له فتوى معيّنة، فتجيز الروايات ذلك، وذلك أنّ تعبير الروايات ظاهر بأنّ الواجب أن يكون الإمام العادل المعيّن الواحد: (ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول)، (ولأعفونّ عن كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام عادل من الله)، (ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله)، (معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي تجب عليهم طاعته)، (واتباعه دينًا يدان الله به).
4ـ لا بُدّ من تعظيم القائد العادل واحترام شرعيته ومرجعيته إذا توفرت لديه الشرائط المذكورة، وذلك أنّ الأئمة المعصومين (ع) يعبّر عنه: الإمام من الله، كما يعبّر عنه القرآن بورثة الكتاب، وهذه هي الرفعة والجلالة، إذا كان ينقح نتاج الفتاوى وإعطاء الناس الأحكام الشرعية، كما إذا كان قائدًا ومهيمنًا على الناس ويخاف الله تعالى، فله الأجر العظيم الذي لا يوصف.
5- يمكن مراجعة الآيات القرآنية عن لفظ (الإمام) و(الأئمة)، وإذا راجعنا الآيات فلا ننظر إليها بشكل خاص بالأئمة المعصومين (ع)، بل ننظر لها بشكل أوسع من ذلك، وهو المرجع الديني في عصرهم (ع) أو عصرنا، من الأمثلة:
(قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75)) [الفرقان].
وقال تعالى أيضاً: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)) [السَّجدة]، وكذلك عندما نقرأ الآيات المعاكسة للهدى، أي أئمة الضَّلال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ) [القصص: 41].
وبعد، كانت هذه محاولة لقراءة جديدة، ونظرة محتملة، وأستغفر الله من كلّ ذنب أذنبته.