[22] قبس من سماء رمضان
الدكتورة رانية الشريف العرضاوي* |
{إنّما يخشى اللهَ مِن عبادهِ العلماءُ إنّ الله عزيز غفور} فاطر/28:
قيل في الحكمة : “العلم كالدنانير والدراهم؛ إن شاء الله نفعك بها، وإن شاء ضرّك بها”. فبضاعة العالم معدن قلبه، فإن صفا قلبه كانت أصلا، وإن نافق كانت زيفا. وها هنا مربط الفرس، وكعبة الفكرة. فبضاعة العالم هي إرث من النبوة، وهذا الإرث هو غاية العلم، وثمرته هي الخشية. والمعرفة به ليست رسوما على الصحائف، أو نقوشا تدوّرها الأقلام والمحابر؛ إنما العلم معرفة الله وخشيته. ومن نقل العلم دون الخشية والعمل به، حاز الحِرفة والصناعة تعليما، لكنه خسر الجوهر والمقام توريثا.
وأما الخَشية؛ فهي خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه. وهذا ما جعلها خصيصة العلماء. فالذي (خشي الرحمن بالغيب) هو من خاف خوفا اقتضاه معرفته بذلك من نفسه. ومن جهل مقام ربه، ولم يعرفه، فارق خشيته، وخلع جبّة العلم.
والعالم أعلى درجة من العابد، لأنّ الله تعالى قال : (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)؛ فبيّن أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم. ومن ثمّ، يكون خير العلم ما كانت معه الخشية، وبها يوق صاحبه الغفلة. وقد جعل الله العلماء درجات، ورفعتهم جاءت إشارتها بعد حث على آداب المجالسة، والأمر (فافسحوا يفسح الله لكم)، وكأن ذلك توجيه لاحترام أهل العلم وتقديمهم حتى في الجلوس، لعلو مقامهم عند الله. وقد قيل “لحوم العلماء مسمومة” أي غيبتهم شر أكثر من شر غيبة غيرهم. وفي معادات الأولياء منهم محاربة للحق ورايته.
ولمّا قيل (العلم) جاء شاملا كل العلوم النافعة، وإن كان أشرفها ما اتصل بالكتاب والسنة والعربية، والفيصل في ذلك النية. والعالم الفارغ إلا من معرفة بالصحائف، جاهل بمقام ربه وعزته وقدرته، يكون معرضة لفتنة العلم. ورأس فتنة العلم الكِبر، والظنّ بأنه قد أوتيه من نفسه، فكان لزاما التذكير بأنّ (وفوق كل ذي عِلم عليم). وأختم، كان الأمين والمأمون أبناء الرشيد، يتسابقان لحمل نعل شيخهما الكسائي رحمه الله، إكراما لعلمه. وكان ابن عباس رضي الله عنه يقبل يد عبدالله بن عمر ويقول: هكذا أُمرنا أن نفعل بالعلماء. فانظر حالك مع العلماء، وتفقّد صنيعك مع عمائمهم وأقلامهم المُحبّرة بخشية الله. وقد تنال بصالحهم شفاعة، كما قال الشافعي رحمه الله:
أحبّ الصالحين ولستُ منهم
وأرجو أن أنال بهم شفاعة
والله أعلم
_________________
* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.