حبيب الجبيلي.. أن تعمل صائماً.. تحت الشمس 9 ساعات من النهار الحار في نخل "السبكية"
القديح: صُبرة
ينهضُ من فراشه في الخامسة، وقبل الخامسة والنصف؛ يكون “الداتسون”؛ قد أخذ مكانه من مدخل النخل. يبقى في النخل “شاغولاً” حتى العاشرة. يُغادر إلى منزله، وينام مباشرة، ولا يصحو إلا بعد الثانية ظهراً. يؤدّي فرضه، يستقل سيارته إلى النخل، يستأنف ما بقي من عمل، ولا ينسحب من نخله إلا مع انسحاب النهار بصوت أذان المغرب..!
هذا يعني أن 9 ساعات من اليوم؛ تُصرَف في العمل الشاق، حتى في نهارات رمضان الحارة.
في السبكية
هذا هو ملخّص القصة اليومية لحبيب عباس الجبيلي مع النخل الذي يعمل فيه المعروف بـ “السبكيّة”، غربيّ بلدة القديح. وفي القطيف؛ مئات من القصص المشابهة، في نهارات شهر رمضان الحارّة. سواعد تعمل تحت الشمس، “تعمُر”، “تطيّب”، “تبنّي”، تجزّ، تجني، تسقي، تؤدّي ما عليها أن تؤدّيه في شهر الصوم، تماماً مثل سائر السنة.
لا أحد يحاسبهم على الحضور والانصراف.. لا جهاز بصمة.. لا بطاقة.. لا توقيع. لا أحدَ يسألهم متى جئتم..؟ ومتى غادرتم..؟ كلّ ما في الأمر أنهم “أحرارٌ”، تُقيّدهم قيمة واحدة؛ قيمة العمل.
فلاح مخضرم
حين التقيناه؛ كان مشغولاً بريّ شروب “أحواض” الفجل في نخله “السبكية”. حبيب الجبيلي من جيل الفلاحين المخضرمين، أولئك الذين يحملون إرثاً من أساليب الزراعة التقليدية، الذين أضافوا إلى الأرض تعديلات الزراعة الحديثة. هناك سمادٌ صناعي “صِنْعي”، وهناك “حديد”. يخلط الاثنين في “سطَل”، ثم يغرف منه ويصبُّ في مدخل الأحواض، ليغذّي الزرع، أثناء الريّ بما يُسمّى “الغَمْر”.
تعايش
النهارُ قائظ؛ والشمس ليس لديها وقت لتتفهّم أن من تحتها صائمين يعملون بجد وكد. وحبيب الجبيلي؛ ليس لديه اعتراض على طبيعة دورة الحياة. إنه يتعامل معها ويتعايش فحسب. عليه أن يؤدّي فروض الأرض، مثلما يؤدّي فروض السماء. إنه أسلوب حياة بالنسبة له.. أسلوب معيشة. ينام ساعاتٍ من الليل، وساعاتٍ أخرى من النهار، ويصرف جزءاً من وقته في حياة الناس ومجالستهم، فيما يذهب الوقت الأهمّ لدورة العمل.
أكّار
والنهار هو معاش الناس، وهو من الناس، ومعاشه في نخل “السبكيّة” الذي يُعطيه حبيب الجبيلي جهده وخبرته، ليأخذ منه ثمره ونتاج أرضه. إنه فلّاحٌ “أكّار”، أمضى سنواتٍ طويلةٌ في إحياء هذا النخل الذي ما زال يحتفظ بحياة. والجبيلي يعرف ـ كفلاحٍ واقعي ـ أن الأرض تُعطي أكثر مما تُعطي النخيل. لذلك؛ بدا اهتمامه بـ “الشروب”، أكثر من اهتمامه بالنخيل الكثيرة في المكان.
أصناف
هناك أصنافٌ جيدة في “السبكية”. لكنّ فيه صنفاً نادراً لم يعد يُشاهد في محافظة القطيف. صنف “الشبيبي”، هناك ثلاث نخلات لديه من هذا الصنف المهدد بالانقراض. ظهرت النخلات الثلاث في “سطر” واحد. وبدت عذوقها بلا “تحدير” محاصَرة بالسعف الكثيف. يحتاج إنزال العذوق ـ في هذا الصنف بالذات ـ إلا فلاحين اثنين، لا واحد كما هو حال أغلب النخيل. لكن حبيب الجبيلي لم “يُحدّر” العذوق.. تركها وشأنها.
تجارة هامش
ويبدو أن الجبيلي تململ من تحدير “الشبيبي”، ولم يبذل جهداً كافياً لتحدير الأصناف الأخرى. هذا ما ظهرت عليه النخيل. وحين سألناه عن السبب؛ أجاب بما معناه أن النخلة ليست مجدية اقتصادياً. إنها تكلّف أكثر مما تُنتج. ما إن يبدأ موسم الرطب؛ حتى تهوي الأسعار. يهبط سعر صندوق “الخلاص” إلى 5 أو 7 ريالات. الجدوى غير موجودة في استثمار النخيل. لذلك فإن العناية بالنخلة؛ هدفها البركة والحفاظ على النوع؛ أكثر منه عملاً مجدياً تجارياً للفلاح. على هذا يحرص الفلاحون على الاستثمار في الأرض، على زراعة الخضروات طيلة العام، لتصبح النخلة شأناً تجارياً هامشياً بالنسبة لهم.