“أحرم الحجاج”.. هل وُلدت أول ملحمة شعر عربية في قرية البحاري..؟ قبر الشيخ الدمستاني في القطيف.. و "الملحمة" في كلّ مكان
كتب: حبيب محمود
عند الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد المعروف بـ “مسجد العابدات”؛ في حرم المقابر الواقعة غرب مدينة القطيف؛ يقع قبرٌ كبير ذو شاهدٍ رخاميّ محفورٌ فيه اسم صاحب القبر، وصفته، وتاريخ وفاته.
“هذا مرقد العلم الرباني الفاضل الصمداني المحدث الكبير والمصنف الخبير شاعر أهل البيت العلامة الحجة الشيخ حسن الدمستاني بن الشيخ محمد بن خلف بن ضيف الدمستاني البحراني”.
قبر موجود منذ 261 سنة، في ترابه عالمٌ وشاعرٌ، قدّم للأدب العربي أول ملحمة شعرٍ على الإطلاق، ربما من دون أن يدري هو نفسه بما أنجز. وبالتأكيد لم يجد إنجازه ـ حتى الآن ـ اعترافاً من النُّقاد الذين درسوا أدب الملحة في الشعر العربي، وأرّخوا له.
أول ملحمة شعر عربية معروفة هي “الإلياذة الإسلامية” التي كتبها الشاعر المصري أحمد محرم المولود سنة 1877، أي بعد وفاة الدمستاني بـ 110 سنوات.
الشاعر أحمد محرم
في حين كُتبت ملحمة “أحرم الحجاج”، وعرفت بهذا الاسم لدى الأدباء والعلماء والعوام في شرقيّ السعودية والبحرين والكويت وعمان.. والعراق، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً.. وفي عصر الإنترنت؛ باتت الملحمة في كلّ مكان..!
وحين كتبها شاعرها كانت تُعرف بـ “المربّعة االدمستانية”، لأن شكلها العروضي قائمٌ على طريقة “الرُّباعيات”. ولكنها توصف، أيضاً، بـ “ملحة كربلاء”، وأيّاً كانت التسميات، وأيّاً كان مستوى اشتهارها؛ فإنّ فيها سرّاً ما يزال قائماً؛ هو أنها أول ملحمة شعر تلبّي شروط الملحمة الشعرية التي يعمل النقاد في ضوء معاييرها النقدية المستوحاة من الأدب الغربيّ..!
من ملحمة الأوديسة لهوميروس (ويكيبديا)
شروط الملحمة.. غربياً
بدافعٍ عقَديٍّ عاطفيٍّ بحت؛ كتب الشيخ حسن مطوّلته الشعرية، وهذا من أهمّ شروط الملحمة التي عرفها الأدب الإنساني، منذ الإلياذة والأوديسة والفردوس المفقود، وكلُّها كُتبت بدافع ديني أساساً. والدافع الديني عند الدمستاني؛ هو التعبير عن عظمة الإمام الحسين، عليه السلام، في سيرته البطولية.
والبطولة شرطٌ من شروط الملحمة أيضاً، فالغاية من الملحمة هي إجلال البطولة التي تتمتع بها الشخصية الرئيسة في القصة. وتقول بعض تعريفات الملحمة بأنها “حكاية بطولية تخبر عن حركة جماعات أو حركة الشعوب وحركة القبائل وهي نموذج إنساني يُحتذى به، يفعل بحياته وسلوكه ما يمكن أن يطمح المرء لتحقيقه”. و “أحرم الحجاج” تفعل ذلك من أول بيتٍ فيها إلى آخر قافية.
الشخصية الرئيسة هي الحسين، وهو محور أحداث القصة، وهو المثال المُحتذى به. ولذلك؛ فإن ما حدث له في كربلاء سنة 61هـ؛ سببٌ في أن ينحر الشاعر “هدْي السرور”، وكأنه في حجّ خاص:
أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور
وأنا المُحرمُ عن لذاته كل الدُّهور
كيف لا أُحرم دأباً ناحراً هدي السرور..؟
وأنا في مشعر الحزن على رزء الحسين..!
إنها مقاربة مع مضمون ديني بحت.. الحج.. الإحرام.. والشاعر يُحرم عن “اللذات” بـ “الحزن.. كل الدهور”. لكنّ هذا الخيال ليس قاصراً على المُفتتح، بل تصطبغ به الملحمة، بما في ذلك “أسطرة” جوانب من الحكاية الطويلة:
لست انساه طريداً عن جوار المصطفى
لائذاً بالقبـة النوراء يشكـوا اسفـا
قائلاً يا جدّ رسم الصبر مـن قلبي عفى
ببلاء أنقَضَ الظهـرَ وأوهى المنكبـين
تاريخياً؛ لم تكن هناك قبة على قبر النبي (ص) سنة 60هـ. بل بُنيت أثناء عهد الملك قلاوون الصالحي سنة 678. وتخيُّل وجود القبة في الملحمة؛ نوع من أسطرة جانب من القصة.. أي استخدام “أسطورة”.. وينسحب ذلك في تخيُّل حوار بين الحسين وبين النبي وهو في قبره، فيخاطب الحسين جده:
ضمّني عندك يا جداه فـي هذا الضريحْ
علني يا جدُّ من بلـوى زماني استريحْ
ضاق بي يا جدُّ من فرط الأسى كل فسيحْ
فعسى طود الأسى يندكُّ بيـن الدكّتيـن
ومن ثم يأتي الرد:
فعَلا مـن داخل القبـر بكاءٌ ونحيب
ونـداء بافتجـاع يا حبيبـي يا حسيـن
يستمر الحوار حديثاً عن المستقبل بتفاصيل ما سوف يجري للحسين وأهل بيته. وتستمرّ القصة، وتصل إلى ترحال الحسين بأهله إلى أن وصلوا إلى أرض كربلاء:
بينمـا السبـط بأهليـه مُجـدّاً فـي المسيرْ
فإذا الهاتـفُ ينعاهـم ويدعـو ويشيـرْ
أن قـدام مطاياهـم مناياهـم تسيـرْ
ساعةً اذ وقف المهر الذي تحت الحسينْ
وهنا تظهر البطولة.. ووسط المعركة يخوض أصحاب الحسين المواجهة الشجاعة:
يحسبـون البـيضَ اذ تلبـس فيض القللِ
بيـضَ أنـسٍ يتمايلـنَ بحُمْر الحـللِ
فيـذوقـون المنـايـا كمـذاق الـعسلِ
شاهدوا الجنـة كشفـاً ورأوهـا رأي عينْ
ثم بطولة الحسين نفسه، بعد مقتل أنصاره:
بطلٌ فردٌ من الجمع على الأبطال طالْ
أسدٌ يفترس الأُسْد عـلى الآجال جـالْ
مالـه غير إله العرش في الأهوال والْ
ما سطا فـي فرقـة الا تولت فرقتينْ
نص متكامل
من الناحية الفنية وبمعايير اللغة الكلاسيكية السائدة في القرن الثامن عشر؛ يظهر النص متكاملاً في 70 رباعية، 280 بيتاً، كلها على نسقٍ واحد، ومن بحر عروضي واحد هو “مجزوء الرمل”، وقفلة واحدة، لها وظيفة واحدة؛ هي التعبير الشجيُّ على طريقة الشعراء الذين رثوا الحسين، منذ استشهاده. بالتأكيد تأثر الشيخ الدمستاني بما يُعرف بـ “أدب الطف”؛ وتأثّر بأساليب العصور المتأخرة من فنون البديع كما في الرباعية الأخيرة “الأبطال طال.. آجال جال، الأهوال وال”.. إلا أنه ابتكر شيئاً جديداً لم يعرفه الأدب العربي من قبل.. لم يكن مجرد راثٍ، بل حكّاءً يأخذه الشجو والخيال، يميناً ويساراً، وصولاً إلى تصوير الفاجعة وبطريقة متفجّعة حدّ الندب:
واذبيحـاً مـن قفـاه بالـحسام البـاتـرِ
واصريعـاً بعـراهُ مـا لـه مـن ساترِ
واكسيـراً صَلَـوَاهُ بصليـب الحـافـرِ
وارضيـضاً قدمـاه والقـرى والمنكبـينْ
قصيدة.. لطمية.. أوبريت…!
قصَر مقاطع الملحمة؛ سهّل قراءتها وإنشادها ـ منبرياً ـ على تنوع موسيقي.. فهي تصلح قصيدة تُنشد بنسق حزين بطيء في مقدمة الخطبة.. تصلح “لطمية”: بطيئة، سريعة، متوسطة.. تصلح “أهزوجة”، وأخيراً أصبحت “أوبريت”..!
باختصار؛ هي ملحمة ذات تماسك فني نوعي، وهي ـ أيضاً ـ نصٌّ شعبيٌّ جداً، حتى كأن الشيخ “في كل عام، ينهض من مرقده الأخير في القطيف ويعود إلى بلده البحرين، ليشارك أهلها في مراسم عزاء الامام الحسين، يرتقي مئات المنابر في مختلف المناطق والقرى”.. والكلام للصحافي قاسم حسين من تقرير نشرته صحيفة “الوسط البحرينية” في 5 ديسمبر 2011. لكن الحقيقة هي أن الشيخ لا يعود إلى مسقط رأسه البحرين فحسب، بل ينتشر في الشريط الخليجي والعراق بأصوات “الخطباء” و “الملالي” و “الرواديد” و “المنشدون”..!
في قرية البحاري
تقول سيرة الشيخ الدمستاني إنه هاجر من قرية “دمستان” البحرانية إلى القطيف سنة 1131هـ، وسط ظروف أمنية مضطربة، وعاش في القطيف حتى وفاته سنة 1181 (1767م) وذلك يعني أنه عاش في القطيف 50 سنة. ويرجّح الباحث عبدالكريم الشيخ أنه عاش في قرية “البحاري”. الشيخ هو محقّق كتاب جده الشيخ علي البلادي المتوفي سنة 1340 “أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين”. وقد بحث في سيرة الشيخ الدمستاني، وجاء ترجيحه استناداً إلى موقع قبره..
قبر الشيخ حسن بتاريخ 14 أغسطس 2021
يوضح الشيخ أن مقبرة القطيف المعروفة ـ حالياً ـ باسم “الخبّاقة” كانت تتكوّن من مقبرتين: الخبّاقة من جهة الشرق، والعابْدات من جهة الغرب. وحتى عهد ليس ببعيد كانت منفصلتين بطريق. والأخيرة كانت ـ وما زالت ـ مقابر لسكان قرية “البحاري” أكثر من الجهة الشرقية.
وقد عاش الشيخ فلّاحاً على الرغم من جلالة موقعه العلمي، ووصْفهِ ـ عند مؤرخي العلماء ـ بـ “الفقيه المجتهد”، وإكباره “زاهداً عابداً تقياً ورعاً شاعراً بليغاً، إن نظم أتى بالعجب العجاب وإن نثر أتى بما يسحر عقول أولي الألباب”.
وقضاء نصف قرنٍ من حياته في القطيف يُرجّح ولادة القصيدة/ الملحمة فيها أيضاً. فهل وُلدت الملحمة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في القطيف فعلاً..؟
وهل ابتكر الشيخ طريقتها إلهاماً صرفاً..؟ أم كان له اطلاع على آداب خارج دائرته العربية فأدخل الملحمة إلى تاريخ الأدب العربي تأثراً..؟
إنها أسئلة لا إجابات لها.
شاهد الفديو