[الحلقة الأولى] حين يصنع الشيخ مثقفَهُ
محمد الشافعي
مدخل
لا يسعى هذا المقال لتفنيد آراء الشيخ أحمد سلمان التي أوردها في محاضرته الرابعة في هذا الموسم والتي عنونها بـ”المثقف بين الواقع والتطلعات”، بقدر ما يسعى إلى بيان أين يتموضع خطابه في سياق المحافظة على القوى الفاعلة في المجال الاجتماعي، وكيف أن كل فاعل يسعى إلى “الأخرنة/ “otherizationأي صناعة نظيره الذي ينشط معه في نفس المجال، ويجهد لصناعته وفقاً للمعايير التي تخدم تثبيت سلطته.
وأجد أن راهنية وأهمية قراءة خطاب الشيخ أحمد سلمان من هذا المنظور تكمن في فهم التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع وتعاد فيها ترتيب القوى الفاعلة. فصناعة الآخر ليست ممارسة فريدة نرصدها في هذه اللحظة من تاريخ مجتمعنا، وهي ليست فقط من اختصاص الفاعل الديني الذي يحاول صناعة مثقفه. فأوروبا العلمانية سعت إلى صناعة متدينها الخاص وفقاً للشروط العلمانية كما هي شروط تدين الأقليات الدينية في إطار دولها الحديثة التي ترعى تعددية ضمن نظام علماني، وكذلك كما يتضح من التنظير للمجتمع ما بعد العلماني وعلمنة اللاهوت قبل انخراطه في التواصل العمومي كما يقترح يورجان هابرماس.
فتجذر التقاليد العلمانية هناك، مكّنت العلماني من فرض قواعد اللعبة وتحديد معايير الخطاب اللاهوتي ليكون فاعلاً في فضائه. وفي مجتمعنا المحلي، وحيث أن الخطاب الديني هو المتجذر، ويناضل للمحافظة على هيمنته، فإنه هو من يطلب من الخطاب الذي يقع خارج سلطته أن يتشكل ضمن قواعد اللعبة التي يحددها. ومحاضرة الشيخ أحمد سلمان تأتي كانموذج فقط، وإلا فإن “الأخرنة” يمكن ملاحظتها في خطابات أخرى مشابهة.
انتقاء التعريف وخلق النظير
يستعرض المحاضر في القسم الأول عدة تعريفات للمثقف، وعلى الرغم من ذكره أن هناك من أحصى أكثر من مائة تعريف لمفهوم المثقف، إلا أننا نجده يذكر ثلاثة تعاريفٍ ثم ينتقي منها تعريفاً لادوارد شيلز، وهو تعريف يأتي من كلاسيكيات علم الاجتماع، ويحمّل المثقف دور التغيير الاجتماعي. بهذا الاختيار، يتم وضع تصور للمثقف بأنه نظير في الدور لرجل الدين في سعيه ليلعب دوراً داخل المجال الاجتماعي القائم. ستغيب تعريفات المثقف بوصفه الكائن المشكك في النظام الاجتماعي، وصاحب وظيفة الشك، والمتمرد على السلطات الاجتماعية، وغيرها من التعريفات التي لا تنسجم ومحاولة صناعة الآخر القابل بشروط اللعبة في المجال الاجتماعي.
اكتفى المحاضر بالتنويه إلى أن كثرة التعريفات دالّة على صعوبة الحصول على لقب المثقف، وأنه لا ينبغي أن يمنح هذا اللقب لكل من لا لقب له ولا لكل “من قرأ كتابين” على حد تعبيره. إن المحاضر هنا يحاول وضع تعريف محدد ينص على أن ” المثقفون هم قطاع بين المتعلمين يسعون إلى صياغة ضمير مجتمعهم ليتجه اتجاهاً راشداً ويؤثرون على القرارات الكبرى لهذا المجتمع”.
اقتباس تعريف والبناء عليه وترجيح تعريف على آخر دون مرجح، وتجاهل أن التعاريف في هذا المجال هي تعاريف سياقية، أي أن كلاً منها أنتج ضمن تصور عام لمجتمع ما وفي لحظة تاريخية ما، وأن بعضها يصلح للبناء عليه والبعض الآخر منها ارتبط بالشروط التاريخية المساوقة له. فمثلاً، تحضر تعريفات أنطونيو جرامشي للمثقف العضوي والمثقف التقليدي في سياق تصوره للمجتمع والصراع الطبقي، وكذا تعريف كارل مانهايم للمثقف المنظوري، فكل تعريف هو بالضرورة مرتبط بنظرية أشمل وفي إطار سياق تاريخي وسياسي واجتماعي معين، ولكن يبدو أن تعريف شيلز المختزل، يتوافق و الصورة التي يراد خلقها لـ”الآخر”، الذي سيكون مطلوباً منه امتلاك مشروع إصلاحي، ورؤية نقدية، وأدوات، وأن ينخرط في المشاركة الاجتماعية وعملية الإصلاح.
بعد وضع حدود لتعريف المثقف ودوره ووظيفته، يثير المحاضر نقطة محورية تكشف عن توزيع القوى والحفاظ على قواعد اللعبة. فيشير إلى أن ليس كل مثقف ينبغي أن “تُثنى له الوسادة”، وكما هو واضح فإن الفعل هنا مبني للمجهول الذي لم يصرح به المحاضر. فمن الذي ينبغي أن “يمكّن” المثقف؟ هنا لا يفصح المحاضر و يبقي الأمر مبهماً، و لكنه يعقد مقارنة بين المجتهد و تمكينه من المرجعية، و بين المثقف و تمكينه من ممارسة دوره. وهذه المقارنة، تشير على نحوٍ ما، بأن المحاضر يريد من “الآخر/ المثقف” أن يلتزم بالتراتبيات التي يتموضع فيها الفاعلون بما يشبه أدبيات المؤسسة الدينية التي تحبذ الانتظام وفق قواعد صارمة، وأن تحد من حرية التعبير والفكر والممارسة الثقافية إلا تحت إطار التسلسل الهرمي.
في الجزء الثاني من المقال نستعرض المواصفات التي سردها المحاضر ليضمن صناعة “آخره” ليلعب دور النظير، وكيف سيقدم نقداً لخصومه المحليين الذين ينافسونه حالياً في خطابه دون أن يلتزموا بقواعد الاشتباك التي يريد الاحتكام لها.
ــــــــــــــــــ
اقرأ الحلقة الثانية من هنا