[الحلقة الثانية] حين يصنع الشيخ مثقفَهُ
محمد الشافعي
مواصفات الآخر المصنوع
على مدى الجزء الثاني من محاضرته، يسعى المحاضر إلى تحديد الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المثقف الذي وضع حدوده ووظيفته الأساسية في الجز الأول. حديث المحاضر من مبتدئه إلى منتهاه يعزز ثنائية رجل الدين والمثقف، ولا يتيح المجال للتفكير في رجل الدين بوصفه صنف من أصناف المثقفين، يمارس الفعل الثقافي من خلال الخطابة والنشاط الجماهيري ويتناول المواضيع الفكرية المتعددة. اعتبار المثقف “آخر” هو ضرورة كما يظهر، لإبقاء رجل الدين محتفظاً بخصوصية وموقعية في المجال الاجتماعي.
معضلة المشروع والدور
تبدأ مواصفات المثقف في تصور الشيخ أحمد سلمان، على أنه الذي يحمل مشروعاً أو دوراً اجتماعياً، وتتجدد هنا الإحالة إلى تعريف شيلز. ويشير المحاضر إلى أن افتقاد الدور والمشاركة في الإصلاح الاجتماعي يتسبب في ظهور “المثقف الممسوخ”، ويستدعي الشيخ سلمان هنا جملة من تعبيرات عبدالإله بلقزيز في نقد المثقف من كتابه نهاية الداعية، فيربط غياب المشروع أيضاً بتضخم النرجسية، وممارسة المازوخية الثقافية، والاستعراض، وقد يتحول إلى مثقف ظلامي تشاؤمي، وصولاً إلى تحوله لمثقف انتهازي.
يُغفل الشيخ سلمان بوعي أو بدونه السياق الذي يتحدث عنه بلقزيز الذي يشتبك هنا مع المثقف النهضوي [راجع الكتاب صفحة 75] الذي انخرط في مشاريع النهضة على مستوى الأمة عبر الالتزام بالايديولوجيات الكبرى الماركسية والقومية وحتى الإسلامية. وبلقزيز لا يعترف بالثنائية التي يعززها المحاضر، فتحدث عن “مثقف الشرع” [صفحة 50]، وانتقد المثقف النصوصي سواء المتمسك بالنص الديني أو الماركسي [صفحة 77]. بلقزيز يتحدث بشكل منهجي ويتوجه إلى صنف من المثقفين وحتى حين يتحدث عن المثقف الأكاديمي أو الباحث، فإنه يلفت قارئه لذلك قبل أن ينخرط في تقديم نقده [صفحة 133]. أما الشيخ أحمد سلمان فهو يستعير نقد بلقزيز للمثقف العضوي أو الملتزم أو النهضوي ليسقطه على المثقف الذي يحاول صنعه، والذي يتضح تدريجياً أنه صورة محسّنة من ذلك الذي يشتبك معه في وسائل التواصل الاجتماعي، فيسخر من استعراضات البعض، وسلوكياتهم الشخصية، ولا يرى في المثقف سوى تلك النماذج التي يشتبك معها.
إذن يغيب عن متخيّل المحاضر مثلاً، المثقف الوطني الذي يدافع عن القضايا الوطنية، والمثقف القومي، والمثقف الأنسني الذي تتجاوز معارفه وإنتاجاته حدود المجتمع الذي يسعى المحاضر إلى اعتباره حدود التنافس. وسيغيب الفنان الذي لا يشتبك معه، والذي يضيف للثقافة عبر منتجه سواء كان تشكيلياً أو أدبياً أو منتجاً سينمائياً. سيغيب المثقف المهني الذي يتغير المجتمع من خلال التزامه المهني الذي يوطّن المعرفة والتكنولوجيا في المجتمع فيسهم في تغيير المجتمع. هنا تتضح صورة المثقف النظير الذي يبحث عنه الشيخ ليكون “آخره”، شخصية تهتم بمواضيعه ومجال اشتغالاته وتخضع لذات المعايير ويمكن المحاججة معها باستخدام ذات الأسلوب.
“الزاوية الأضيق”
ثم يحضر التخصص كصفة ثانية يطالب الشيخ أحمد سلمان المثقف أن يحترمها في محاولة لتحصين موقعه وتقييد المثقف “الآخر” ضمن حدود سلطوية تكبح تمرده. يتضح مراد الشيخ من التخصص حين يحدد الدين كمثال على عدم قبول تجاوز المثقف عليه. وهنا لا يقيم المحاضر اعتباراً لحدود علم الدين التخصصي، والثقافة الدينية التي قد تتقاطع مع الميادين الأخرى. التخصص هنا يبدو ضرورة لفرض القيود على الممارسة الثقافية، ولا أعلم هل بلقزيز في الصفحة 154 من الكتاب الذي نصح المحاضر جمهوره بقراءته، كان يقصد هذا الطرح بأنه من ضمن القوى التي ينبغي للمثقف أن يخوض معركة معها لأنها “تفرض على الثقافة الانحشار في الزاوية الأضيق”، خصوصاً وأنه هو نفس الكاتب الذي شدّد على “نهاية الإقطاع المعرفي” [صفحة 93].
يا مثقف اركب معنا
يدعو المحاضر لعلاقة تكاملية بين رجل الدين والمثقف وعدم القطيعة، ولكن يضمر في هذه الدعوة محورية رجل الدين وتكميل المثقف الذي يريد صناعته لدوره. أي أن هذه العلاقة ليست ندية، ولكنها تموضع رجل الدين في مركزها وتجعل المثقف مسانداً له كما يتضح في المثال الذي يقدمه وهو مساعدة مجموعة من المثقفين للسيد محمد باقر الصدر في إنجاز مشاريعه الفكرية. هنا تظهر المسافة على سلم السلطة بشكل واضح وإن استترت تحت عنوان العلاقة التكاملية.
على سبيل الختام
عمدنا في جزئي هذا المقال لتحليل خطاب الشيخ أحمد سلمان الذي تحدث عن واقع المثقف، لكنه لم يتوقف إلا عند من يشتبكون مع الفاعل الديني وخصوصاً على شبكات التواصل الاجتماعي. وهو حين يرسم التطلعات، ينتقي دون مرجح معتبر تعريفاً من سياق الحديث عن المثقف النهضوي ويحاول تصعيب شروط الانضمام لعضوية الحقل الثقافي على خصومه. ويتبع ذلك بوضع معايير وضوابط دونها يقع المثقف في سلسلة من الهجائيات المقذعة. وتم بيان أن الغرض كما يتجلى من هذا الخطاب، هو ضبط الممارسة الثقافية وفق شروط رجل الدين الذي يحاول صناعة مثقف مسالم يمكن “التكامل” معه.
وهنا أشدد، أن المقصود ليس الانتصار لفئة معينة وقد يلاحظ القارئ التملّص من تسمية هذه الفئة بالمثقفين حتى لا ننجر إلى سجال لا طائل منه. إلا أنه حريّ بمن ينشط في المجال العام أن ينظر لكل صوت ناقد له، سواء تملّك الأدوات أم لم يتملكها، على أنه يعبر عن ذاتٍ مقاومة تتعرض لسلطة مجهرية خلقتها شبكة القوى التي توسلت الخطاب لممارسة هيمنة ثقافية، وحيث ثمة سلطة فثمة مقاومة، وصناعة النظائر قد لا تجدي لإلغاء المقاومات مهما اختلفنا أو اتفقنا على مضمونها وشكلها.
ــــــــــــ
اقرأ الحلقة الأولى من هنا