أبو زكي الخلف.. المعلم الذي أسس صندوق الشويكة الخيري.. وأقدم الديوانيات

عبدالإله التاروتي

تميزت شخصية (أبو زكي) المرحوم الأستاذ  محمد بن منصور الخلف؛ – المتوفى في يوم الثلاثاء الموافق 2 من محرم 1443 –  بمجموعة من السمات والخصائص النفسية والاجتماعية جعلت منه واحداً ممن يشار إليه بالبنان على مستوى علاقاته الإنسانية سواء في محيطه  وبيئتة الحاضنة (الشويكة)؛ أو من خلال  مشاركته في مشاريع العمل الاجتماعي؛ أو على مستوى الزمالة في العمل الوظيفي كمعلم.

وإذ نقرأ شخصيته فإننا لا نقرأها بمعزل عن المحيط الذي عاشت فيه، وهذه قاعدة ضابطة في دراسة الشخصية؛ والتي تلحظ الجانب البيئي؛ والجانب الذاتي للفرد.  ولسنا هنا في صدد الدراسة المعمقة لشخصية الأستاذ محمد الخلف؛ وإنما الإشارة إلى هذه الركائز لتكون حاضرة ونحن نتحدث عنه كعنوان خير.

فهذا العنوان لم يتولد من فراغ؛ أو من لا شيء وإنما هو نتاج عمر من الحضور الطيب بين الناس مؤثراً ومتاثراً.

ربما الكثير من أبناء المجتمع قد يجدون فيما حولهم من الشخصيات لهم نصيب مما لدى الأستاذ الخلف في واحدة منها أو أكثر، وهذا صحيح وملحوظ وحيث أن هؤلاء الشخصيات  في الأعم الأغلب ومنهم الأستاذ الخلف بعيدون عن الأضواء وبذلك هم يعملون بصمت دون ضجيج، كان لزاماً ومن منطلق نسبة الحق إلى أهله؛ وأيضا من موقع تسجيل تجاربهم باعتبارها أنموذجا وقدوة تشد من عضد اللحمة الاجتماعية، وتسهم بشكل فاعل في تنشيط مواطن القوة في بنية المجتمع؛  من خلال استمرار أدوارهم وتطويرها عبر الاستفادة مما تركته من بصمة في المحيطين بها لتكون مسيرتهم سيرة مشرقة تكشف بشكل أو بآخر عن مواطن الفعل المسؤول في الإطار الذي يتحرك فيه ضمن دائرة الأخوة الإيمانية، والمحبة الإنسانية.

لذا لا نعدم أن نجد نماذج من هم على شاكلة الأستاذ الخلف في غير مكان من البيئات الخيرة.

 وهنا تأتي المسؤولية في رد التحية بمثلها، وبدرجة أرقى بأحسن منها في ترسم خطى هذه الشخصيات الطيبة التي نثرت الأريج فيما حولها، عبر توثيق مسيرتهم لتكون شاهداً حاضرا لحقيبة إنجازاتهم. وبطاقة ثناء وشكر على ما قدموه من خدمات خيرة.

 وفي مقام قراءة تجربة الأستاذ الخلف؛ يمكننا تلمس هذا النمط من السلوك المشرق في شخصيتة من خلال عدة محطات منها:

المحطة الأولى : تجربته كمعلم انضباط واهتمام.

مارس التدريس أولا في  خارج المنطقة؛ خلال منتصف عقد التسعينات هجرية تقريبا، حتى استقر به الأمر في مدرسة ابن القيم المتوسطة بسيهات حتى إحالته على التقاعد. 

 فمن سمات شخصيته كمعلم أنه لا يبخل بما لديه من معلومة يقدمها إن كانت لديه خصوصا للزملاء الجدد من المعلمين بشكل عام، ومعلمي مادة الرياضيات بشكل خاص؛ حيث يأخذ بأيديهم نحو مساعدتهم على التكيف مع البيئة المدرسية بما يمتلكه من تجربة طويلة في التعامل مع مادة الرياضيات والتي تتطلب مهارات عدة ومن أهمها مهارة جذب الطالب للمادة من خلال شخصية المعلم ومحبوبيتها لدى الطالب.

حيث كثيراً ما سمعت منه ملاحظته حول تصرف بعض معلمي مادة الرياضيات التي تأخذ منحى الشدة، وعدم قبول المناقشة مع الطالب في شيء مما يطرحه سواء أثناء الشرح أو الاختبار ودرجته، وحجة الأستاذ الخلف في ذلك؛ أنه  لابد لكي نجذب الطالب للمادة أن يجد لين جانب من المعلم بما لا يفقد المعلم من حسن إدارته للصف؛ لعلمنا المسبق مقدار الاتجاه السلبي الذي يصاحب عادة الطلاب في نظرتهم لمادة الرياضيات سواء عبر تجاربهم الشخصية معها في المراحل التعليمية السابقة؛ أو من خلال ما يتناقله الطلاب فيما بينهم عن المادة أو المعلم.

لذا كان حريصا على تنبيه المعلمين الجدد لأهمية العلاقات الإنسانية فيما بين المعلم وطلبته وبينه وبين الهيئة التعليمية والإدارية بالمدرسة.

وسلوكه هذا كان محل تقدير واعتزاز من قبل كل من عمل معه؛ إذ لا يزال يُذكر فيشكر. ومن هؤلاء الذين أشادوا بدوره؛ الأستاذ عماد عبدالعظيم الجراش؛ في الفترة التي تسلم فيها إدارة متوسطة مدرسة ابن القيم ؛ فيتحدث عنه بكل فخر واعتزاز نظير ما لمسه منه من احترام متبادل فيما بينه وبين منتسبي المدرسة من طلبة ومعلمين وهيئة إدارية؛ وانضباط واهتمام ملحوظ في أداء المهام الموكل بها كل ذلك من مبدأ التعاون بين الزملاء.

فهذا النمط من السلوك من قبل الأستاذ (أبو زكي) لم يكن وليد لحظته بل هو انعكاس لطبيعة شخصيته التي اتسمت بالمحبة والتعاون؛ والألفة؛ وحسن السريرة.

المحطة الثانية: الديوانية المفتوحة .

تعتبر ديوانية (أبو زكي الخلف) من أقدم المجالس والديوانيات في حي الشويكة إذ تمتد في عمرها الزمني لأكثر من خمسين عاما؛ وهي امتداد لمجلس والده المرحوم الحاج منصور بن علي؛ وقد كان والده أيضا محل تقدير واحترام وسمعة طيبة عند أهل منطقته والمتعاملين معه أثناء ممارسته للتجارة في المواد الغذائية؛ وهي بلا شك تركت أثراً ملحوظا وزاداً طيبا تلقاه الأستاذ (أبو زكي) من لدن والده والتي كان طابع شخصيته الهدوء والسكينة والوقار.

ومما هو معلوم بأن الديوانية أو المجلس حسب التعاطي القطيفي؛ ليست مجرد مكاناً بلا محتوى وإنما هي مؤسسة غير رسمية يقوم بها بعض أفراد المجتمع بشكل عفوي تتضمن مجموعة من الأعراف والتقاليد الضابطة غير المدونة كتابياً تاخذ قيمتها وأهميتها من ذات المحيط الذي تنشأ فيه والجماعة التي تتشكل منه.

ولها أدوار ووظائف نفسية واجتماعية وتربوية تنعكس في مجملها على الفرد والمجتمع سلوكاً وممارسة ضمن نطاقات التكيف والدعم النفسي والاجتماعي الذي ينشده رواد المجلس؛ وهي إحدى وسائل نقل الموروث الثقافي والاجتماعي بين الأجيال؛ وبما تتيحه من فرصة في بناء العلاقات الإنسانية بين أبناء الحي الواحد في مختلف المراحل العمرية؛ والمستوى الاقتصادي والتعليمي والاهتمامات المختلفة؛ حيث  تتبادل في المجلس الأفكار بشكل استرسالي دون تكلف من قبل رواد المجلس؛ كما تنبثق منه أفكاراً لمشاريع تقابل احتياجات أبناء المجتمع.

 وقد جرت العادة أن تفتح ديوانية (أبو زكي) أبوابها ليلياً طيلة العام باستثناء ليالي شهر رمضان الكريم، وعشرة المحرم الحرام؛ ووفيات الأئمة عليهم السلام فإنها تغلق للمناسبة.

 وعندما نقول بأنها ديوانية تفتح ليلياً فهذا يتطلب أموراً ذات صلة بنمط شخصية صاحب الديوانية والمجلس، فهي تتطلب أريحية نفسية إلى أبعد حدود الأريحية؛ نظراً لاختلاف أمزجة المرتادين للمجلس وما يتبع هذا الاختلاف في الأمزجة والاهتمامات إلى ضرورة ترويض النفس على تقبل هذا الاختلاف، خصوصا إذا صدر هذا الاختلاف ضمن دائرة الأصدقاء فيتعامل معه على أنه وضع يتطلب احترام هذه القناعة والمزاج وإن كانت في كثير منها أو في جزء منها على غير ما يتصوره ويفكر فيه، وهي مهارة غير متأتية لكل أحد من الناس. وقد توافر عليها الأستاذ الخلف. بل ويرى من مستلزمات هذا الدور تفقد الأصحاب والسؤال عنهم؛ فبمجرد تغيب أحدهم عن الحضور لليلتين متتاليتين أو أكثر فإنه يسأل الجالسين عنه؛ وذلك للتعرف عن سبب غيابه وانقطاعه عن المجلس أهو لعارض صحي أم لسفر أم لسبب أو لآخر؟، فيبادر حينها  بالتخاطب معه هاتفيا أو الذهاب إليه لزيارته، وهذه سمة بارزة لا تكاد تخفى على كل من ارتاد مجلسه؛ ولعل هذا السلوك وغيره هو الذي ساهم في استمرارية فتح أبواب المجلس طيلة عقود من الزمن.

فهو يرى بأن حق الصحبة تستدعي المبادرة بالسؤال وتفقد الأحوال؛ وظلت هذه ممارسته حتى في سنيه الأخيرة مع ما صاحبها من متاعب صحية؛ قد تكون سببا وجيها في غلق أبواب المجلس إلا أنه بالرغم من ذلك يصرُّ على فتح أبواب المجلس للدرجة التي يطلب فيها من أسرته أن يتم إعداد واجب الضيافة حتى ولوكان منوماً في المستشفى.

 وما توقف عن استقبال المرتادين للمجلس إلا عند تفشي فيروس كورونا حيث اعتذر عن الاستقبال لدواعي الاحترازات الصحية.

 من هنا فإن أنموذج الأستاذ الخلف؛ هي بحق تمثل درجة من أعلى درجات الانبساط والألفة والتي يبديها حال استقبال الأحبة في مجلسه. فهو ينظر لمن يماثله في العمر كأخ؛ ومن هو أصغر منه كصديق لا يتكلف في التعامل مع أي واحد منهم بل على العكس من ذلك تماما عندما يجد ما لا يعجبه فإنه يصمت فيفهم من حضر أن الموضوع غير مرضي عنده فيدار عندها الحديث في موضوع آخر فتظهر على محياه الانبساط والسعادة إذ تم تغيير الحديث من دون أن يجرح مشاعر أحد بكلمة هنا أو هناك.

 وهو في هذا السياق صاحب مدرسة وقدوة جديرة بالملاحظة.

المحطة الثالثة: صندوق الشويكة الخيري.

يمثل صندوق الشويكة الخيري من مصاديق التكافل الاجتماعي في أسمى وأروع صوره .

فهذا الصندوق الذي تأسس في مجلس (أبو زكي الخلف) قبل أربعة عقود تقريبا ولا يزال – بحمد الله وفضله-  ساهم فيه الأستاذ محمد الخلف كمؤسس ومدير للمشروع ورائده في هذا المسير: (وأجر على يدي الخير)، وبمعية فتية مؤمنة من خلص رواد المجلس الذين ساهموا معه للدفع نحو تلمس مواطن الاحتياجات لذوي الحاجة من أبناء الشويكة.

وهذا الصندوق؛ بطبيعة الحال ليس بديلا عن دور الجمعية الخيرية بالقطيف؛ وإنما هو بمثابة داعم أهلي يساند أهدافها ويسد الجانب الذي يتطلب إجراءات إدارية تفرضها الضرورة المؤسسية بخلاف فكرة الصندوق الذي يتعامل وجها لوجه مباشرة في طلب المساعدة ومن ثم تقديمها للمستفيدين؛ لا بل في كثير من تفاصيلها تتوجه المساعدة للمتعففين الذين لا تصل بياناتهم للجمعية لسبب أو لآخر وبحكم القرب المكاني لهؤلاء المتعففين وتحسس أوضاعهم من قبل إدارة الصندوق الخيري يتلقى هؤلاء المساعدة.

وقد استفاد الأستاذ (أبو زكي الخلف) من انضمامه في عملية الإحصاء  السكاني وكان من ضمن المربع الجغرافي الذي يغطيه الإحصاء السكاني والاجتماعي كانت منطقته (الشويكة) فكان لوقوفه  عن قرب على المستوى التعليمي والاقتصادي والصحي والاجتماعي للأسر التي تشملها عملية المسح الإحصائي؛ ساهمت في تكوين صورة عامة عن طبيعة الحالة الاقتصادية والاجتماعية في منطقة الشويكة، مما يعني تكون قاعدة معلوماتية ساعدت في تلمس الطريق نحو تقديم المساعدة لذوي الحاجة عبر الاستفادة من معطيات هذه التجربة الميدانية.      

وعن سياق إدارة الصندوق من قبل الأستاذ (أبو زكي الخلف)مع إخوانه من الفتية المؤمنة، لم يقتصر فقط على الجهد البشري بل مضافا للقيام بجهد الإدارة هم مشاركون في الدعم المالي أيضا في توفير موارده المالية والتي تأتي طواعية من الأهالي؛ وبذلك  فهي تنطلق من مبدأ استشعار روح المسؤولية المجتمعية في بذل أقصى درجات البذل والعطاء؛  وفي ذات الوقت الاستعانة بالخبرة التراكمية لتجربة المسح الاجتماعي في رسم الخطوط العامة لإدارة الصندوق الخيري بالشويكة.

عناوين المساعدة

 اتخذت المساعدة عدة عناوين عملية مباشرة ومنها:

  • المساعدة الرمضانية

وكان العمل فيها أشبه ما يكون بخلية نحل حيث تبدأ عملية الاستعداد والمراجعة من حذف وإضافة ومن ثم تحديد ذوي الاحتياجات ضمن قائمة مدروسة؛ وهذه العملية تبدأ من شهر جمادى الثاني حتى شهر رمضان؛ فكانت توزع في بدايات الأمر  بشكل عيني مباشر؛ ثم تطور العمل عبر تزويد المستفيد ببطاقة يصرف ما يقابل مبلغها المرصود سلعاً غذائية بالتنسيق مع إحدى المؤسسات المحلية؛ مؤرخة ببداية وانتهاء الاستفادة منها.

  • مساعدة الزواج: ضمن توفير مستلزمات تأثيث وإعداد مكان.
  • مساعدة إقامة الفاتحة للرجال والنساء: ضمن التكفل بمتطلبات المجالس.
  • المساعدات الطارئة: كتوفير جهاز من الأجهزة الضرورية كالتكيبف مثلا.
  • توزيع الصدقات: وهي التي تتطلب المبادرة في إيصالها إلى مستحقيها سواء كانت صدقة عامة أو مخصصة للمصرف حدده مخرج الصدقة.

هذه هي الخطوط العامة التي اضطلع الأستاذ (أبو زكي الخلف)؛ في رعاية الاهتمام بها والحث على استمراريتها، فهو ومن معه من رفقاء العمر ينطلقون في تقديم المساعدة من موقع التكافل الاجتماعي التي تتطلب الكثير من عناوين البذل والمساعدة بما يحفظ الكرامة الإنسانية.

على أنه مما ينبغي التنويه إليه بشان تقديم المساعدة في مساراتها المذكورة  وإن كان بعنوان الصندوق الخيري بالشويكة إلا أنه في الوقت الذي يحصل فيه متلقي الخدمة من أهالي الشويكة وإن نزح في سكنه إلى منطقة أخرى؛ فإنه في ذات الوقت فإن من ينتقل للسكن في منطقة الشويكة من غير أهلها فهو مشمول بهذه المساعدة والدعم شأنه في ذلك شان الشويكي سكنا وإقامة. 

  ختاما نقول:

ونحن إذ نعرض تجربة الأستاذ (أبو زكي الخلف) في مجال علاقاته الإنسانية وكذلك ما سعى في تكوينه من مشروع خيري؛ فإننا نسوقه في معرض بيان الخير الذي يمثل فيه (أبو زكي) إحدى مصاديقه المشرقة، وهو ما يعني عرض التجربة في حيزها الإنساني الذي يعكس في كثير من تفاصيلها أهمية ما تقوم به الدوائر الصغيرة في المجتمع من دور فاعل في سد جانب أو المساعدة في تلبية احتياجات من لم تصل إليه خدمة الجمعيات الخيرية وغيرها من مؤسسات العمل الاجتماعي لسبب أو آخر. وقناة ذلك شخوص نذروا أنفسهم في خدمة الناس بصمت لتكون تجربتهم عنوان خير!.

تعليق واحد

  1. رحمك الله يا ابا زكي فكم كنت تعمل بصمت وهدؤ فدورك هو دور الجندي المجهول لايعرفك إلا من اقترب منك عن كثب وحتى من تشاركه أو يشاركك في بعض الانشطة التطوعية والاجتماعيه.. مغمورا لاترسم حول اعمالك أي هالة تلفت الناس لما تقوم به من خير الأعمال

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×