[28] قبس من سماء رمضان
الدكتورة رانية الشريف العرضاوي* |
{ن والقلم وما يسطرون} القلم/1:
في الوقوف بين يدي اللغة العليا، اللغة القرآنية المعجزة، تتطالعك الحروف النورانيّة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة كريمة من سور الكتاب، وهي ما تُسمّى بالحروف المقطّعة، وقد جُمعت في قولهم: ” نصٌّ حكيمٌ له سرٌّ قاطع”. ذكر صاحب الإتقان الإمام السيوطي رحمه الله أنّ هذه الحروف هي أفضل حروف العربية من حيث التوصيف والاستعمال، وأبحر بعض علماء التفسير في السعي الحثيث لتفسيرها ونيل شيء من أسرارها كابن عجيبة والزمخشري والقرطبي وأبي حيان وغيرهم، على اختلاف مدارسهم الفكرية. غير أنّ الراجح فيها ما تتداوله المفسّرون في إرجاعها إلى المتشابه الذي لا يُقطع بتأويله. وقد تكرر بعضها، مثل تكرار ” حم” في سبعة مواضع، و”آلم” في ستة مواضع، و”آلر” في خمسة مواضع، و”طسم” في موضعين. وانفردت “آلمص، آلمر، كهيعص، طه، طس، يس، ص، عسق، ق، ن”. ولله في ذلك حكمة وتدبير.
وأمّا سورة القلم، فقد خُصّت بالحرف “نون”. وهو الحرف الرابع عشر في الأبجدية العربية يعني منتصفها، والخامس والعشرون في الألفبائية. وهو حرف مركّبٌ في جسمه صوت الغُنّة، ومجهور، مرقّق. ومن أجمل ما قيل في تفصيل الغُنّة أنها صوت يخرج من الخيشوم يشبه صوت حنين الغزال إلى فصيلها. ولعلّ هذا يلفتنا إلى كثرة استخدام النون قافية في شعر الحنين والفقد. لما فيها من مسحة صوتية رقيقة يشوبها الحزن.
والنون واسطة الأبجدية، ووسط كل شيء دائما ما يكون من أنفَسه. ولهذا الحرف معان كثيرة، منها أنه (الحوت)، ومن ذلك قوله تعالى: (وذا النون)، يعني صاحب الحوت يونس عليه السلام. ولعل رسم الحرف أشبه شكل الحوت فاستعير له في التسمية. ومن معانيه: الدّواة، أي المحبرة، والمداد الذي بها، أو اللوح الذي يكتب عليه. وفي ذلك لطيفة عجيبة، فهو الحرف في الآية الكريمة، وإن كان من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، لكنه في بلاغة وتناسب اتساق مع المقسَم به بعده (والقلم وما يسطرون). أي ما يكتبون. فانظر إلى معجز البلاغة والتركيب.
فالقلم أداة الكتابة التي تلقم الحبر من الدّواة، وتسجل على اللوح السطور. وما القلم والبحر الذي فيه الحوت ببعيدين في التمثيل والضرب القرآني، يقول تعالى في سورة لقمان: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله). بل إن العلم في وعي عامة الناس بحر لا نهاية له، والقلم أداة العلم وسيفه. ويسمّى العالم الراسخ (حَبر)، وكأنه مداد العلم لغزير علمه. فانظر إلى هذه الدلالات مجتمعة، ليصلك شيء من بليغ تلاوتك (نون) في أول السورة.
وأصل القلم القصّ من الشيء الصلب، ويقال للمقلوم “قلَم”. وخصّ بما يكتب به، وبالقدح -السهم- الذي يضرب للقرعة، ومنه: (يلقون أقلامهم)، أي أقداحهم اقتراعا. وقد منّ الله على خلقه بما أفاده من نعمة الكتابة، فهي من أعظم ما أُلهمه الإنسان (علّمَ بالقلم). وقسمه به -سبحانه وبحمده- لخير تشريف وتعظيم له، وبما يكتب به: (وبما يسطرون).
والسّطر، الصف من الشجر المغروس، ومن الكتابة. ولعل هذا يفسّر حب الإنسان النقش على الشجر، ليكون كتب على ما يكون منه آلة الكتابة، فيكون ثِبْت على ثابت، يبقى، ويبقي الأثر والخلود. وسواء أكان القسم بكل ما يكتب، أو بالأعمال والآجال التي قدرها الله، ففي ذلك تنبيه ولفت لأهمية فعل الكتابة نفسه.
فالتاريخ الإنساني بدأ بولادة الكتابة في بلاد الرافدين، عند ظهور الكتابة المسمارية لدى السومريين، التي زاوجت بين الكتابة الصورية والكتابة المقطعية من قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد. واستمرت مع البابليين والآشوريين الذين تكلموا بالأكادية. وهذه لغات سامية، حملت ظواهر مشابهة جدا لظواهر العربية الفصحى، كظاهرة الإعراب مثلا في البابلية القديمة. وهو ما يشير بقوة إلى تجذّرها من ذات الأصل. وفي نفس السياق، عُرفت كتابة الأبجدية في جزيرة العرب في القرن السادس الميلادي، وفي رأي آخر، أنّ أقدم نموذج للخطّ اليمني القديم لا يتعدّى القرن الخامس قبل الميلاد. ومن اللطيف، أنّ النقوش الكتابية في المنطقة كلها تدلّ على ثنائية اللغة. فالعرب يتحدثون بلغة ويكتبون بلغة أخرى غيرها، أو بلغة محكية يومية بينما يستعملون لهجة ثقافية أو أدبية أخرى. وهذا مبحث كبير لدارسي اللغة وتاريخها.
كل هذا، يعلن عن عظيم مقام الكتابة، وجليل مسؤولية الكاتب، فما يسجله ليس لنفسه، بل هو للتاريخ والحضارة والكون. وإلا، لما كان القسم بأدوات الكتابة وفعلها، فما الإنسان إلا الكتاب الذي يكتبه بعمله، ويعمل بمكتوبه، ثم يُقرأ بعد طيّ كتابه. فانظر ماذا كتبت.
والله أعلم