جعجعة من دون مضمون
السيد إبراهيم الزاكي
لقد سبقت منا الإشارة إلى أن الاختلاف في الرأي، والتباين في وجهات النظر، هو أمر واقعي، ومن طبيعة البشر، ومن حقّ كلّ فرد أن تكون له اجتهاداته وآراؤه وقناعاته. وبالتالي ليس مطلوباً من أي حوار أن ينتهي إلى تطابق، أو توافق، في الرؤى والأفكار، أو أن يفضي إلى تسليم طرف رأيه للآخر. فإذا كانت الغاية من الحوار هو السعي نحو التقارب، ونبذ التفرقة، مثلاً، فإنه من المهم في هذه الحالة خلق حالة حوارية بين أطراف الحوار تمهد لرفع سوء الفهم بينهم، ولم شتاتهم، وتوحيد كلمتهم، خصوصاً حين يكون بين المتحاورين الكثير من المشتركات.
ويتراءى لي من خلال هذا المنظور، بأن الحوارات التي يُرجى منها التقريب بين الناس، ونبذ الفرقة فيما بينهم، تتحول إلى ضرورة ملحة في الأوقات الغير مستقرة، والتي يسودها الاضطراب والفوضى، حيث تُصبح الحوارات المتشنجة، والمستفزة لغرائز الجمهور، غير ذات جدوى، ولا يرجى منها الخير والفائدة. ففي مثل هكذا أجواء يصبح لزاماً تغليب لغة العقل والمنطق، والدعوة إلى الحوار والاختلاف بالتي هي أحسن، بعيداً عن لغة الاتهامات، واللهجة الصاخبة والانفعالية، لأنها دائماً تؤدي إلى احتقان النفوس، وإثارة الأحقاد والضغائن، فضلاً عن تعميق الخلافات، وزيادة الفرقة بين الناس.
ولعل المشكلة، في مثل هكذا حوارات متشنجة وانفعالية، حين يكون الهمّ الأكبر للداخل فيها هو” “إفحام خصمه” أمام الجمهور، وإظهار جهله وفهاهته، وبيان ضلاله وغبائه، وهدم دعاواه العريضة؛ ذاك الضال الجاهل، وبيان قدره ومستواه العلمي؛ ذاك المدّعي التافه للعلم والمعرفة. وسيهتم المجادل كثيراً بصورته أمام الناس، وسيحسب ألف حساب لهذا، وسيرفض كل الرفض أن يبدو أمامهم عييّا أو جاهلاً، وسيستخدم كل الأساليب التي تظهره أعلم وأفصح، وأكثر إقناعاً وأقوى حجة، لا سيما أمام الأتباع، والذين ليس لهم دور، غالباً، في متابعة المناظرات إلا دور المشجّع الذي يهتف للاعبيه، ويرجو لهم النصر والفوز على الخصوم. فلو كان هناك مناظرة مثلاً بين شيخ يقول بجواز كشف وجه المرأة، وشيخ آخر يوجب تغطية وجهها؛ فالمتابعون، في الغالب، سيصفق كل منهم لوجهة النظر التي يتبناها مسبقاً، وسيفتح أذنيه ويولي اهتمامه بمن يوافقه الرأي، وسيصاب بالصمم عن سماع حجج خصمه، مهما كانت قوتها واتساقها المنطقي، والعكس بالعكس”. (1)
وهكذا حين تتحول الحوارات إلى مناظرات تسودها المناكفات، والسجال العقيم، فلن تكون لها انعكاساتها الإيجابية على الجمهور، ولن تُقَيَّم نتائجها موضوعياً من قبل جمهور المتابعين والمشاهدين، لأن كل طرف سوف ينحاز إلى جانب من يحب، ويضعه في صورة نقية ناصعة البياض، أما من لا يحب فسوف ينظر إلى آرائه بشكل سوداوي وسلبي، بعيداً عن التقييم العادل والصحيح.
والحقيقة أن مثل هكذا حوارات لا يمكن أن توصف إلا بأنها “جعجعة من دون طحين”، حيث الثرثرة والكلام الكثير، من دون أن يكون لها أثر على الواقع. فهي غير منتجة، ولا يرجى منها أن تثمر عن شيء. فحين يكون الحوار من أجل الحوار، أو الجدل من أجل المناكفة، أو الاختلاف لأجل الخلاف، وإثارة غرائز الجمهور، فالمؤكد بأن حصيلتها لن تكون إلا خواء، أو هي سراب لا يروي عطش الظمئان.
لكن حين يكون الحوار من أجل إثارة العقول، بعيداً عن إثارة غرائز الناس، والعمل على تأصيل قيم الحوار والتعدد، والبناء الفكري المتزن، والرقي بالإنسان، وتطوير المجتمع وإصلاحه، ونقد الأوضاع المعاشة، وتطهير الأجواء الفكرية والثقافية من شوائب الأفكار السلبية والضالة، فإن المحصلة ستكون ذات قيمة إضافية، ويمكن انتظار نتائجها مع الأيام، من خلال ما يتجلى واقعاً في حياة الناس، وينعكس فعلياً، ليس فقط في أقاويلهم، بل أيضاً في سلوكياتهم وممارساتهم.
أما الحوار لمجرد الحوار، من دون أن تتغيَّر الذات الإنسانية من الداخل، فلن يرجى منه شيء. فالحوار ليس مجرد جدل، ومناكفات، ولغو، وثرثرة، وحشو كلمات، وتمضية وقت، فمن دون مضمون يرتقي بحياة الإنسان، ويغير أوضاع الناس نحو الأفضل، لن يكون هناك قيمة للحوار، خصوصاً إذا ما تم تسخين المشهد الحواري بالعنف اللفظي، والتراشق بالشتائم، حيث تزيده الأوضاع المضطربة تأزماً وانحداراً. أما في حال تم تطوير العملية الحوارية شكلاً ومضموناً، من خلال إثارة العقول، وربط الناس بالجانب العقلاني، فيمكن للحوار أن يكون طريقاً للاستنارة، والرقي بمستوى الإنسان ووعيه وثقافته.
الهوامش
1- جدوى المناظرات. رائد السمهوري. جريدة الوطن السعودية.