سيهات تودع عبدالله الغريب.. معلم لم يحمل عصا في زمن «التعليم بالضرب» حاضر دوماً في المناسبات الاجتماعية ترك أثراً طيباً تعدى مدينته
سيهات: شذى المرزوق
في زمن «التعليم بالعصا»؛ كان عبدالله إبراهيم الغريب يعتمد أسلوب «التعليم بالترفيه». لم يُر طوال مشواره التعليمي الذي تواصل على مدار عقود من عمله، حاملاً عصا. كان حريصاً على رسم الابتسامة في قلوب طلابه، حتى أنهم تسابقوا قبل دقائق على نعشه، رفعوه، ليكرموه ميتاً في مقبرة مدينته سيهات، كما أحبوها حياً في مدرسة الكندي الابتدائية بسيهات، وخارجها في الحسينيات والمجالس، في الشوارع، فالرجل كان حاضراً في كل مكان.
بعد مضي أكثر من 20 عاماً على آخر دفعة قام بتعليمها أستاذ اللغة العربية، وقف تلامذته، وزملاؤه، إلى جانب أبنائه وأقاربه لإيفاء هذا المعلم الفاضل حقه من التبجيل والتقدير، بعد 74 عاماً، عاشها ليعطي، وقليلاً ما أخذ، علم خلالها أبناء هذه المدينة قواعد اللغة العربية، وأساسياتها في المرحلة الابتدائية حتى تقاعده المبكر منها.
من تلامذته من تخرج، وعاد إلى نفس المدرسة معلماُ زميلاً له، ومنهم من بقي على تواصل مستمر معه، فمن تلميذ إلى صديق، ومنهم من لازمه وشاركه في فعاليات اجتماعية، دينية، في مساجد ومجالس سيهات.
المعلم الذي اجمع كل من عرفه أنه «لين الجانب، هادئ الطباع، ما استخدم عصا قط في زمن كان المعلمين فيه يستخدمون العصا التأديبية على كف من عصى من التلامذة، فيما كان هو كثير المزاح، دائم الابتسامة، يمزج في حصته الجانبين بين التعليم والنشاط، رحل اليوم تاركاً أثراً مؤلماً في قلوب أهالي سيهات، الذين لازالوا ينادونه بالأستاذ حتى تعاقبت عليها الأجيال وبقي الاستاذ استاذا حتى آخر لحظات عمره رغم سنوات التقاعد«.
طالب.. ثم زميل
يقول تلميذه وزميله في سلك التعليم عبدالمنعم القلاف «كان لي معه (رحمه الله) مجموعة من الصلات والمواقف والطرف، فقد كان ممن استقبلني بابتسامته التي لا تفارق محياه في أواخر التسعينيات من القرن الرابع عشر الهجري بين عام 1397هـ، وعام 1403، عندما كنا طلاباً في مدرسة الكندي الابتدائية في سيهات».
وأكمل «صحيح اننا لم نتشرف بالدخول لفصله طلاباً، لكن سمعته كانت تغطي أرجاء المدرسة، ولطفه ينتشر بيننا، ولم اسمع طالباً له ذكره بسوء في زمن العنف واستخدام العصا للتعليم، على العكس من غالبية المعلمين؛ كان ودوداً لطيفاً رحيماً صاحب كلمات لينة وعبارات محببة».
بعد حوالى عقدين عاد القلاف إلى مدرسة الكندي معلماً، تحديداً عام 1417هـ، «فكان في صدر المستقبلين لي معلماً زميلاً، كما هو بروحه الشابة المفعمة بالمرح، والابتسامة التي لم تتغير، يحترم الزملاء، ويحنو على الأبناء. كان فعلاً أخاً كريماً يحترم الصغير قبل الكبير».
وأشار إلى وجوده الاجتماعي الذي «أثر في نفسي، فلم أذهب إلى مناسبة اجتماعية؛ الا وجدته أمامي، يشارك الناس أفراحهم، ويهني لهم أعراسهم، وربما شارك في إنشاد الأناشيد وقراءة المواليد. ويعزي الجميع في أتراحهم، وأحزانهم».
المعلم الغريب في آخر صورة التقطت له.
الابتسامة قبل السلام
تلميذ آخر للغريب التحق في سلك التعليم، وهو أحد أقاربه، المعلم في مدرسة ابن القيم المتوسطة بسيهات علي العصفور، الذي قال «الأستاذ والمربي الفاضل عبدالله الغريب (أبو فهمي)، رجلٌ سبعيني، عُرِف بدماثة أخلاقه، وطيبة قلبه. ابتسامته الدائمة على مُحيّاه تسبق تحيته بالسلام، لكل مَنْ يلقاه على حدٍ سواء».
وأضاف «تربت ونشأت تحت يديه أجيالٌ، عرفته أبًا حانيًا ومربيًا نصوحًا ومعلمًا مخلصًا. يُجمع كلَّ مَنْ يعرفه على سعةِ صدره، وحبّه الشديد للقاءات الاجتماعية وحرصه على المشاركة فيها، ولو بنزرٍ يسير».
وأشار إلى أن الغريب «رحلَ، ولكن ابتسامته العريضة ترفرف في سماء محبيه، وروحه المرحة تملأ أجواءهم حبًا وأملاً. نسأل الله العلي العظيم له بالرحمة والمغفرة والفوز بالجنة والرضوان».
التعليم بالترفيه
أحمد المرزوق، أحد طلاب الراحل في مدرسة الكندي الابتدائية في عام 1415هـ، رثاه قائلاً «ببالغ الحزن والأسى؛ تلقيت نبأ وفاة أستاذي ومعلمي المربي الفاضل عبدالله غريب، أبو فهمي، ليلة البارحة، وقد آلمني رحيل هذا الرجل المُعطاء تربوياً وأخلاقياً».
يضيف «كُنت أعشق حصته، لما يضمنها من أجواء ممزوجة بين التعليم والمواقف الطريفة. فكان (رحمة الله عليه) كثير المزاح مع طلابه، محبوباً لدى جميع الطلاب في المدرسة».
وحول علاقته بالفقيد بعد سنوات الدراسة؛ قال «حتى بعد ان انطوى زمنٌ بعيد، وتخرجت والتحقت في الوظيفة؛ كنت على صلة مستمرة معه، وكانت جميع تلك اللقاءات في المناسبات الدينية، خصوصاً في حسينية شاخور، كنت لا أحضر مناسبة؛ إلا وألتقي معه، إضافةٌ الى المناسبات الاجتماعية الأخرى».
وأضاف «أبو فهمي شخصية سرى حبُها في دماء أحبائه من جميع أطياف المجتمع، وكيف لا يكون محبوباً وقد كان متحلياً بأخلاق محمد وآلِ محمد (عليهم السلام)، وقد انعكس ذلك على شخصيتهُ التربوية، وكان نِعم المعلم الرسالي، ونِعم الرجل الصالح».
تشييع الراحل في مقبرة سيهات قبل قليل.
سمعة تجاوزت حدود المدرسة
ومن تلامذته أيضاً محمود الشاخور، الذي قال «تتلمذت على يديه في الصف السادس الابتدائي، عام 1400هـ، المعلم الغريب (رحمة الله عليه) إنسان طيب وخلوق مع طلابه، لم نره يوماً رفع عصا في وجه طالب، أو أساء إليه. يملك سمعة طيبة ومحبة كبيرة في قلوب الطلاب، تجاوزت حدود المدرسة إلى أهالي المدينة».
وأشار الشاخور، إلى أنه حتى بعد تقاعد الغريب؛ «بقي معطاءً طيباً، عرف بحسن السيرة وطيب المعشر، فهو رجل اجتماعي متعاون في مبادرات الخير، يقدم المساعدة، يبادر إلى زيارة المرضى، تجده حاضراً باستمرار في مجالس العزاء».
علاقة مزدوجة
علاقة رئيس تحرير صحيفة «الدانة» الزميل عبدالواحد المحفوظ، بالراحل، مزدوجة، فالغريب معلمه وموجهه، وهو زميل والده المعلم الراحل عبدالله المحفوظ (رحمة الله عليه)، وقد عملا في فترة مقاربة.
يقول الزميل المحفوظ «التحق الاثنان في سلك التعليم أواخر الثمانينيات، وتقاعدا تقاعداً مبكراً من مدرسة الكندي، وقد سبق أن رحل عنا زميلين لهما من ذاك الجيل من المربين، هما الاستاذ علي السواد، والاستاذ حسن المرهون (رحمهما الله جميعاً)»، منوهاً إلى الأثر «الكبير» الذي تركه فقد مثل هؤلاء المعلمين في وجدان طلبتهم من الأجيال الماضية.
محبوب سيهات
الأثر الطيب لم يقتصر على مدينته سيهات، إذ نعاه عدد من أبناء مدينة القطيف، منهم زميله في التعليم بذات المدرسة؛ المعلم عبدالجليل محمد المحسن، الذي قال «زاملته معلماً، ولكنه أقدم مني ببضع سنوات، كنت معه في نفس المدرسة الكندي حتى تقاعده، بينما أنا متقاعد منذ 9 سنوات فقط».
أضاف «أعرفه منذ أكثر من 44 سنة، ويعجز المرء ماذا يقول وماذا يكتب في حق هذا المربي الفاضل. إنا لله وإنا إليه راجعون. راضين بقضائه وحكمه. ونسأله أن يغفر لفقيدنا الغالي. ويرزقنا ويرزق محبيه الصبر على آلم فراقه».
وأكمل المحسن، أن «هذا المعلم المربي القدوة الحسنة، طيب خدوم، زينته الأدب، وتاجه الخلق الحسن، كان إنساناً لا يرد سائلاً، ذا شخصية مميزة بحب الناس، دائماً الابتسامة لا تفارق محياه، سمعته الطيبة تغطي من المدرسة إلى سيهات، وكل أرجاء المنطقة».
وأردف «كان لوجوده الاجتماعي أثراً كبيراً في نفوس الناس ومحبيه. لا أتذكر أنني ذهبت إلى مناسبة اجتماعية في أي مكان؛ الا وجدته أمامي، يشارك الناس في أفراحهم، ويهني في أعراسهم، ويعزي في أتراحهم وأحزانهم».
ولفت إلى أنه «عاش لحب الناس. غرس القيم الجميلة في نفوسنا. يكفي أن تبحث في جميع وسائل التواصل الاجتماعي لتتابع ماذا يكتب الناس عن هذا المربي القدوة الحسنة بعد صدمة خبر وفاته».
تلقى المحسن الكثير من الاتصالات، من خارج المنطقة، تستفسر عن خبر رحيله، مضيفاً أن «هذا محبوب سيهات والمجتمع. عندي الكثير لأقول عنه. ولكن في مثل الإنسان الذي لا يختلف عليه اثنان؛ تتعطل لغة الكلام والكتابة».
العبدان
المعلم مضر عبدالله آل ربح، من العوامية، وهو أحد زملاء الراحل، لم يحصر حديثه في المعلم عبدالله الغريب (أبو فهمي)، بل تناول زميله عبدالله المحفوظ (أبو حميد)، عنون كلمته بـ«العبدين»، قال «عبارة وكلمة غريبة. قد تثير اهتمامكم، وتطرب لها أذانكم. لكنها تحمل في طياتها معان كثيرة».
يضيف «منذ بداياتي في التعليم؛ التقيت بشخصيتين مميزتين، كان لهما الأثر الكبير في حياتي المهنية. كانا قد بلغا من العمر والسن والمهنية مبلغاً كبيراً. يصعب معه أن تتطرق فيه إلى أي سلوك غير مهني. كنت أخجل أن اتأخر، وأسارع إلى الحضور باكراً، لا أغيب. لا أستأذن، خجلاً منهما. انضباطهما أخجلني. وأثر في نفسي. التزامهما حفزني. أبوتهما منعتني. حضرا وحضر الإبداع. استشيرهما فلا يبخلا. أعطيهما فلا يقبلا، العكس كانا معطائين».
يذكر أن للفقيد من الابناء: فهمي، علي ومحمد، ومن البنات: ناهد، زينب، سكينة، فاطمة وإيمان.
رحمك الله أستاذنا الغالي أبو فهمي رحمه الله رحمة الأبرار واسكنه دار الاخيار وحشره الله مع محمد وآله الأطهار إنا لله وإنا إليه راجعون
الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته ويلهم اهله الصبر والسلوان
ذاك الجيل من المعلمين الأجلاء كانو ندرة في ذاك الزمن الصعب والجميل كانو اباء قبل ان يكونو معلمين يحتون الطلاب كأبنائهم فلهم منا كل الدعوات للأحياء منهم والاموات.