صدقات جارية في حسابات الـ«سوشل ميديا» آمنة تدرّس في «واتساب».. ضحى وهدى تختمان القرآن في «انستغرام».. عصام يسقي الرياضيين
القطيف: ليلى العوامي
في العوامية؛ حين يرد اسم منصور إبراهيم أبو جوهر؛ يتذكر الناس قيوم مسجد الإمام الرضا (عليه السلام). لم يكن فقط قائماً على مسجد كان يُعرف بـ«أبو العصافير»، على طريق العوامية – الناصرة، فهو من شيده بمساعدة مزارعين آسيويين، بعدما كان لعقود مجرد أرض بوار، على بعد «رمية حصاة» من مزرعته في الرامس، قبل أن تُزال المزارع.
أبو عبدالمحسن، الذي حلت الذكرى الخامسة لرحيله أمس (الخميس)، لم يكن أيضاً مجرد قائماً ومُشيداً للمسجد، كان كتلة ابتسامة تمشي على الأرض، قلب ينبض طيبة وعطاءً لكل من حواله.. هكذا يعرفه العواميون وغيرهم.
في صفوى؛ لن تنطق اسم آمنة محمد علي سلمان آل داؤود حتى تسمع كلمات ثناء على امرأة نذرت حياتها لتربية أولادها وبناتها والاعتناء بعائلتها.
ستسمع كلمات الترحم على أم عصام، التي أعطت الحب والحنان لكل من حولها، ليس فقط أسرتها الصغيرة والكبيرة، بل الجيران والمعارف، وكل من صادفته في حياتها الممتدة لأكثر من ستة عقود، والتي اختتمت في اليوم الأخير من شهر شعبان الماضي، وقبيل الإعلان عن رؤية هلال رمضان.
في القطيف؛ هناك عبدالغني عبدالعلي آل خضر، الذي عاش عقوداً وقرينه القرآن الكريم، حتى النفس الأخير من حياته. كانت كريماته يستيقظن فجراً على صوته يرتل كتاب الله، ليختم يومه به وأدعية يُداوم على قراءتها.
أبو حسين، الذي كان يداوم على ختم المصحف مرتين وربما ثلاث في الشهر الواحد. كان يحتفظ في جيبه بورقة عليها أسماء: أقارب، جيران، أصدقاء، معارف، شهداء، علماء وفضلاء، يهدي لهم ثواب ما قرأ من كتاب الله وأعمال صالحة أخرى، كان يُداوم عليها. آل خضر واصل كل ذلك حتى آخر يوم من حياته، وتحديداً حتى 21 ذو الحجة 1441هـ.
الثلاثة رحلوا عن دنيانا، وفدوا على رب كريم، على أرحم الراحمين، بما قدموا من أعمال. إلا أنها لم تنقطع – إن شاء الله -، فلهم أولاد وبنات قرروا أن يواصلوا عمل الخير، ويهدوا ثواب أعمالهم إلى آبائهم وأمهاتهم، على غرار ما يفعل الكثير من أبناء مجتمعنا.
لكن أعمال هؤلاء الأبناء، الذين يعيشون في الألفية الثالثة، في ظل الانفجار المعلوماتي والتقني، لم تكن تقليدية. كسروا المألوف بأعمال خيرية توظف التقنيات تارة، وتقدم نماذج مغايرة من الأعمال التطوعية.
«صُبرة» تنقل تجارب هؤلاء الأبناء، التي قد لا تكون مُتفردة، ولا تخرج عن سياق العمل الخيري في مجتمعنا، ولكن لتسليط الضوء على ما نعتقد أنه عمل «نوعي وجديد».
أبو عبدالمحسن.. حنون معطاء ومحب للعلم
تتحدث آمنة أبو جوهر، عن والدها راسمة بعض من روحه «الطيبة»، تقول «أبويي حنون مع كل من هم حوله، خصوصاً أخواته فهم «عيونه المركبة». كان مُحباً للعلم والتعلم. أتذكره غاضباً من أختي، لأنها فكرت للحظة أن تترك الدراسة، بعد ولادتها بابنها. غضب منها، ولم يكلمها جيداً، حتى يعلمها أن الدراسة سلاح، وهو الذي درس فقط حتى الصف الرابع الابتدائي ليلي، لكنه كان يختم القرآن، ويقرأ الأدعية».
ليس من منطق «كل فتاة بأبيها مُعجبة»، ولكن ما ستقوله آمنة يشهد عليه كل من عرف أبو عبدالمحسن، تواصل البنت حديثها عنه «أبويي كان حبيب الشباب في العوامية وخارجها. كان يستمع لمشاكلهم، يقدم لهم النصيحة، وهو من أوائل المبادرين لبناء مسجد الإمام الرضا (عليه السلام)، ومعه عمال بسيطين، فأصبح الخارج والداخل للعوامية وقت الصلاة يجد مكاناً يُصلي فيه».
تروي أنه «من طيبة قلبه؛ كان يخفف من معاناة العامل الذي يعمل عنده في المزرعة، ويكرمه. سخي أنيق اللسان واللباس»، مواصلة «أبويي كانت عنده بقرات ومزرعة، وأي شيء من الحليب واللبن كانت أخواته أول من يحصلن عليه، وحتى جيرانه كان لهم نصيبهم. كان مؤذن الفريق، وكان عنده مجلس رمضاني، يُداوم على تقديم الوجبات على حب آل البيت (عليهم السلام). يُعطي بعيداً عن الرياء».
مسجد الإمام الرضا (أبو العصافير) الذي شيده المرحوم أبو جوهر.
السير على خطى الأب
بعد كل ما سلف؛ قررت آمنة أن تسير على خطى أبيها، «في كل شيء كان يقدمه رحمة الله عليه». ماذا فعلت؟
رأت في تدريس الرياضيات عبر «سناب شات»، عملاً تهب ثوابه لروح والدها، الذي رحل بعد غيبوبة دامت قرابة 4 سنوات.
عن المبادرة؛ تقول «منذ سنوات؛ وتقريباً عام 1418هـ؛ بدأت أولاً باستخدام «واتساب» بيني وبين طالباتي، في بدايات نزول التطبيق، ثم استخدمت «سناب شات» منذ سنتين. ووهبت هذا العمل لروحه الطاهرة، بقراءة سورة الفاتحة. ولم تقصر معي مشتركات «سناب شات»، في الترحم عليه».
أبسط العبارات التي تتلقاها أبو جوهر كانت «رحم الله والديك»، «رحم الله فقيدك، نفعتينا وخففتِ علينا عبئاً كنّا نحمله في تعليم صغارنا وتوصيل المعلومة لهم»، وبعضهم يزيد «نسأل الله لكِ الصحة والعافية، وشفاء مرضاكم ومرضى المؤمنين والمؤمنات».. كلمات تبعث الحماس والعطاء في نفسها، «بمكيالين بدل مكيالٍ واحد» كما قالت.
إعلان نشرته آمنة تبدي فيه الاستعداد لتدريس الطلاب عبر «واتساب».
مشكلات وحلول.. وانتشار
لا تخفي أنها واجهت بعض المشكلات، ومنها «توفر الوسائل الملموسة لتوضيح الفكرة، وإيصالها بأبسط صورة». لكن عقلها أرشدها إلى «استخدام وسائل متوافرة في بيئتنا، وأيضًا قد يكون العمل مضنياً، خصوصاً أنني أقوم بشرح الدرس مرات عدة، لتعدد الشعب في المنصة، أو إمكانية عرضها لتصل لكل طالبة لتكون مرئية على شاشتها، فمد زوجي الحبيب يد المساعدة بتدريبي وتعليمي على هذه التقنيات والبرامج، لأخرجها بصورة تسر جميع طالباتي، وأرفق معها بـ«شات التيمز»، وكذا في «سناب شات» بعض الألعاب الإلكترونية وأوراق العمل التي تطور من العملية التعليمية، وتكون تطبيقاً على الدرس المُعطى نفسه».
لاقى مشروع آمنة أبو جوهر رواجاً كبيراً، ليشمل محافظة القطيف، ويمتد إلى واحة الأحساء، وبينهما الدمام والخبر. تقول «كثير من المعلمات يتواصلن معي على الخاص، يستشرنني حول كيفية توصيل المعلومة، والطريقة الصحيحة لذلك»، مضيفة «وصلتني إضافات من البحرين والكويت. وبعد أن كان عدد المضافين لا يتعدى 100، وصل الآن إلى 3 آلاف تقريباً، وما زالت الإضافات تأتيني يومياً».
جيل لا يهاب الرياضيات
بعبارات الشكر والثناء؛ تستقبل أبو جوهر صباحها، ما يعطيها نوعاً من الدافعية نحو العطاء أكثر وأكثر، حين تتأخر عن الساعة الثانية ظهراً تتلقى رسائل «نسيتينا أبلة آمنة». حتى أمهات طالبات العام الماضي يفتقدنها، وما زلنَّ يتواصلن معها عندما تواجههن مشكلة.
تعد آمنة بإنشاء قناة «تليغرام»، للاحتفاظ بفيديوهات الشرح، لتكون مرجعاً للجميع عند الحاجة. تقول «أريد جيلاً لا يهاب الرياضيات، جيلٌ لا ينظر إلى المادة على أنها بُعبع يهابه. جيلٌ يتلقى المعلومة بطريقة سهلة وبسيطة، ويطبقها كلما سمحت له الفرصة، فَلم أجد غير الأمهات عوناً لي في ذلك. فصفحتي في «سناب» خاصة بالنساء فقط».
من الصدف الجميلة التي مرت بها؛ أن خطيبة ابنها البكر كانت إحدى طالباتها، «ومع أول لقاء بها أخبرتني؛ مازال جدول ضرب التسعة عالقاً في ذهني». لاكتشف أن الأثر الجميل يبقى ولا يُمحى رغم تقادم الأيام والسنين. اسأل الله أن نكون سحابة صيف تمر ولا تضر، ويبقى لها أثراً يجنى ثماره في كل حين».
رسالة آمنة أبو جوهر تحفز فيها طالبتها آلاء المطرود.
من الرقعي للعوامية
تعود آمنة إلى بداية مسيرتها في التدريس، «عملت مدرسة في متوسطة وثانوية الرقعي بحفر الباطن. كنت أدرس العلوم للمرحلة المتوسطة. وعندما تم نقلي إلى مقر رأسي؛ القطيف، وتحديداً المدرسة الابتدائية الثالثة في العوامية؛ قبلت لأن المدرسة تبعد عدة خطوات عن منزلي. كان جرس الطابور الصباحي يرن في أذني وأنا في البيت. أصبت بالحزن الشديد بادئ الأمر، وبدأتها بتساؤلات أضحك كثيراً عندما اتذكرها وتخطر لي على بال: كيف سأعمل على تدريس هؤلاء الصغيرات؟ كيف سأتعامل معهن؟ هل سأتمكن من جذبهن ليّ؟ هل سأنجح في عملي الجديد؟ وهل وهل حتى كاد رأسي ينفجر، وزاد الأمر صعوبة في عدم تخصصي في تدريس الابتدائية، ولكن المعلمة لدينا تُدرس ما تُعطى من مواد».
كُلفت أبو جوهر، بتدريس طالبات الصف الثالث؛ قراءة وقرآن ومواد الدين، والإملاء والخط، حين كانتا مادتان منفصلتان. تقر بأنها واجهت صعوبة في توصيل المعلومة، خاصة في الإملاء والتعامل مع الظواهر القرائية، فمثلاً من باب الدعابة في درس الشدة لم أكن أعرف أصلاً ماهيتها، كنت أردد «الشدة هي الشدة»، فجعبتي فارغة. حتى جاء الرضا بالواقع، ومحاولة تطوير الذات وبمساندة صديقتي الصفوانية سناء آل سيف، التي وقفت إلى جانبي وقفة أحمل جميلها حتى آخر يومٍ في عمري. فلقد كانت مرجعي في الحصول على المعلومة، من منبعها الصافي».
بروح العطاء؛ بدأت من جديد، وبروح متقبلة للوضع رُشحت من مشرفة إدارتها بعد سنتين، لعمل درس نموذجي على مستوى المنطقة، تحضره مشرفات، على رأسهن مديرة التوجيه والاشراف، ومعلمات كُثر على مستوى المدارس. بعدها تم اختيارها معلمة أولى، لتنقل تجربتها إلى معلمات تعطيهن بمهارة حقيقة «وما أنجحنا أننا كنّا روحاً واحدةٌ، وإن تعددت الأجساد».
..ورسالة وجهتها آمنة إلى طالباتها.
فصلٍ مختلف جداً
انتقلت المدرسة التي كانت تعمل فيها آمنة من بيت مستأجر إلى مبنى حكومي، يحمل مسمى «الابتدائية الثانية في العوامية»، هناك كانت المفاجأة.
تقول «تم اختياري لتدريس الرياضيات للصف الأول الابتدائي. كانت صدمة لي، بداية شعرت بالضيق. كنت أقول: يا الله؛ استطعت التعامل مع ثالث ومواده، الآن رياضيات وفصل أول؟! فقلت في نفسي: لعله خير، والخيرة فيما اختاره الله لي.. حقيقة كان التعامل مع الصف الأول مختلفٌ جداً، خصوصاً في الفصل الدراسي الأول».
تضيف «بدأت بنفسي أولًا، بالبحث عن الخصائص العمرية لهذه المرحلة، والتي بدأتها بالاحتواء والنزول لمستواهن العقلي، فبدأن ينجذبن ليّ، مع بساطة الأسلوب واستخدام الأناشيد، والتي كان معظمها من تأليفي، لندخل على الحصة طابعاً من التعلم باللعب، والذي اعجبت به مشرفاتي: فريدة الدوسري، شريفة الغامدي، والجوهرة السديري، وأيضاً مديرتي سابقاً؛ بدرية البطاط».
أمهات العوامية وتاروت
قررت بعدها أن تنقل تجربتها إلى أمهات العوامية، من خلال جمعية العوامية الخيرية، وبمساعدة المعلمة صباح القاسم، ليكون عنوان العطاء «هيا نقرأ ونتعلم أساسات الرياضيات». طبقتها على مدى سنتين.
ثم نقلت الفكرة إلى تاروت، عن طريق مركز «زهور المستقبل»، بدعوة من شفيق آل سيف. كانت ردة الفعل «جميلة، وما زلت التقي بعض الأمهات اللاتي حضرن معي، وهن يدثرنني ويفرشن زهور الشكر والثناء على وقوفهن على طريقة وأسلوب ومعلومة تهيئهن لتعليم أطفالهن في المنزل».
منعتها ظروف من مواصلة العطاء، رغم دعوتها من مديرة الدار لمعة المحاسنة. تنقلت بعدها في تدريس الرياضيات بين المراحل المبكرة الثلاث، حتى رسا مركبها على الصف الثاني الابتدائي، بدأتها بكتابة شرح الدرس كما تلقيه وإرساله إلى أمهات طالباتها في «واتساب».
تقول «كنَّ يبهرنني بإرسال فيديوهات للصغيرات، يقمنَّ بمحاكات شرحي، وبنفس الطريقة والأسلوب. حقيقة كنت أشعر بسعادة العطاء وبفرح يغمر قلبي».
كانت آمنة ترفض فكرة استخدام «سناب شات». لم تشعر بالارتياح معه. ولكن لرغبتها في منفعة المجتمع؛ بدأت في استخدامه. تقول «حقيقة اعترف بها، وأرفع أكف الشكر والامتنان للمولى عز وجل، أن جعلني أخوض مثل هذه التجارب، لتضيف الى رصيدي في تعليم اللغة العربية أيضاً، لأدخل بها كل بيت من بيوت القطيف، بمقال من مقالاتي المتواضعة. وأخطط مستقبلاً بعد التقاعد، ونحن بصحة وعافية، ان افتتح داراً لتعليم الأطفال، ومشروعاً لكيفية تعليم أساسات القراءة والكتابة وأساسات الرياضيات للأمهات، وأن يكون صدقة جارية عن روح والدي (رحمة الله عليه)، الذي علمنا قيمة العمل وخدمة الآخرين. كما كان يفعل».
اشرب وترحم على أم عصام
انتهى الحديث عن تجربة آمنة أبو جوهر، وإن كان عملها المُهدى ثوابه لروح أبيها أبو عبدالمحسن لم ينته. ننتقل الآن للحديث عن تجربة «أرو عطشك»، المشروع الذي يذهب ثوابه إلى روح أم عصام سعيد الداؤود.
يقول ابنها «ان تروي عطش إنسان، أو حتى حيوان؛ فهي صدقة»، من هنا ولدت فكرت المحطة، لتوزيع قوارير الماء المجانية. يضيف «هي مبادرة لروح والدتي آمنة آل داؤود، إكراماً مني لها، لما قدمته لنا في حياتها. مُبادرة مختلفة للغاية عما تعودنا عليه». وبصوت مبحوح، يكمل «أمي هي الدنيا والسعادة التي ننشدها، هي الأفضل بالنسبة ليّ».
ولكن من هي أم عصام؟
هي ابنة صفوى، والدها الحاج محمد علي سلمان آل داؤود، وأمها زهراء محسن آل داؤود، المعروفة بين جاراتها بـ«أم حسين». آمنة هي الأخت الخامسة، من بين خمسة أخوة، وثلاث أخوات. توفيت عن 63 عاماً، في أخر يوم من شهر شعبان الماضي، ودفنت في اليوم الأول من شهر رمضان، وكان يوم جمعة.
لم تتعلم آمنة، ولكنها كانت «خير معلم، خير مرب، وخير ناصح للجميع، لزوجات أبناءها اللاتي شعرن معها بروح الأم وحنانها، وأحفادها الذين بكوا عليها بكاء الفاقد لأمه، لشدة تعلقهم بها، وحبها ودلالها لهم، فهي الجدة، الأم، الأخت، الصديقة وحاملة أسرارهم»، هذا ما قاله ابنها عصام.
المهندس محمد الحسيني رئيس بلدية القطيف يفتتح محطة «أرو عطشك».
آمنة أم الجميع
يواصل «أمي كانت تبادر لتجمع العائلة. منزلنا كان مقر اللقاءات السعيدة؛ الخالات، العمات، وأخواتي وأزواجهم. تشعر بالسعادة إذا رأت الجميع حولها، والسعادة في عيونهم. تقدم لهم كل ما يحبونه من طعام مطبوخ بيدها. وحتى جدتي أم حسين كانت تنام عندنا بعد وفاة جدي، في بعض الليالي، منذ أن كان عمري ست سنوات».
ربت أم عصام أولادها على التكاتف والحب «أنا وأخوتي وزوجاتنا في منزل والدي كالأخوة، ونحن أربعة أولاد وثلاث بنات. جاهدت في تربيتنا كأي أم. بعد هذا ألا تستحق هذا الحزن والألم على فراقها والقيام بالأعمال الصالحة رحمة بها، وتخليداً لذكراها؟».
يوم رحيلها؛ كان عصام جالساً معها حتى الظهر. كان الحجر يبدأ من الثالثة عصراً. قالت له «قم أذهب إلى بيتكم قبل بدء الحجر. لم تتبق إلا خمس دقائق. وهذه السنة لن تكون معنا على سفرة الإفطار، بسبب الحجر المفروض علينا». يقول «شعرت ذلك اليوم أنني أريد أن أبقى معها، ولكنها كانت خائفة علي، فوعدتها أن آتي لزيارتها ليلاً مشياً على الأقدام، عند خروجي للرياضة، فقد كان مسموحاً بها حينها لمدة ساعة. لكنها طلبت مني ألا أخاطر. في الليل سلمت أمانتها إلى بارئها، رحلت من عالمنا».
تجهيزات متكاملة في المحطة لم تتعرض للتخريب أو التكسير.
بركة دعاء الأم.. حتى بعد الممات
أبناء عصام، أبناء عمومتهم وأبناء خالاتهم، لم يفقدوا جدتهم فحسب، وإنما أمهم، يشرح الداوود ذلك «هي من ربتهم، تحملت بالجميع، حتى خالي حسن الداؤود أبو علي يوم وفاتها قال: أنا اليوم فقدت أمي، وأصبحت يتيماً. والمفارقة أنها رحلت وأنا وجميع أفراد عائلتي اجتمعنا لطيلة 30 يوماً على سفرة الإفطار الجماعي من دونها».
لعقود؛ عاش عصام وأخوته ببركة دعاء أمهم، ولكنه يؤكد أن هذه البركة لم تنقطع حتى بعد رحيلها، يتذكر «دعاء والدتي لنا في حياتها، وإحاطتنا بالعناية الإلهية بعد موتها؛ أنقدت ابنتي من موت مُحقق، فبعد عشرة أيام من وفاة والدتي، وكنا في شهر رمضان؛ صعدت إلى غرفتي لأصلي ركعتين. وكانت معي ابنتي ورد، عمرها سنتين ونصف السنة. وخرجت قبلي، وفجأة سمعت صراخاً. خرجت راكضاً، نزلت وإذا بهم يعطوني جسد ابنتي جثة هامدة، بعدما سقطت من الطابق الثاني داخل المنزل. حملتها وأنا أبكي وأكرر برجاء حار «أم عصام لا تموت». فقد تمثلت لي والدتي يوم أن جئتها يوم وفاتها، وجلست أهرول في الصالة، وأبنتي رأساً على عقب. كنت أدعو الله بألا يأخذها، فتربة أمي لم تنشف بعد».
يضيف «الحمد لله؛ شعرت بها تتحرك، أسرعت بها إلى المستشفى، كشفوا عليها، وكانت المفاجأة أن الطبيب قال: ابنتك بخير، خذها ومع السلامة.. الجميع تعجب، فقلت في نفسي: هذا كله بفضل الله، ثم دعاء الوالدة».
الحزن يتحول إلى مبادرة
يبدو أن عائلة الداوود حولت حزنها وفجيعتها برحيل أم عصام في اتجاه آخر، يقول عصام «فكرت كثيراً بالصدقة الجارية، خطرت في بالي فكرة بناء بئر في إحدى الدول الفقيرة. ولكن في أحد الأيام، وبينما كنت أسير في ممشى جاوان بصفوى؛ خطرت في بالي فكرة: لماذا لا أنشئ محطة مياه يستفيد منها المارة والرياضيون والمتنزهون في هذا المكان. وبالفعل بدأت، وأبصرت المحطة النور، وثوابها للوالدة (رحمة الله عليها)».
يعزو اختيار سقيا الماء على روح أمه «للثواب الكبير الذي يعود للمتوفي، وذلك يُستفاد من أحاديث كثيرة وردت عن الرسول واهل بيته (عليهم السلام)؛ واعتباره من أفضل الأعمال».
المحطة ليست مُخصصة لشرب الماء فقط، فهناك سجادة صلاة بطريقة طي ميكانيكية، ميزان، جهاز لقياس الطول، جهازين لعمل تمارين التمدد والإطالة، وحقيبة إسعافات أولية.
يضيف «المُبادرة جاءت عرفاناً لأمي، وما قدمته من تضحيات. أنا أنشئت هذه المحطة وأمنت فيها قوارير الماء عن روح والدتي، فقد كنت موظفاً، وأخواني أيضاً موظفون مثلي. وكنا جميعنا نقدم لوالدتنا جزءاً من المال من رواتبنا؛ هي ليست مُحتاجة، لكنها بركة المنزل. وحينما فكرت أن أنشأ منزلي؛ رفضت أن تأخذ أي ريال من راتبي. كما كنت أفعل شهرياً. كانت تقول: يا ولدي أنت تبني، ومحتاج كل قرش. خلي الفلوس عندك، تنفعك»، مضيفاً «كانت تضحي كثيراً لأجل راحتنا».
حققت المبادرة نجاحاً «منقطع النظير، من جوانب عدة؛ الأول وهو الهدف الذي أقيمت من أجله؛ التشجيع على ممارسة المشي، حيث ان أكثر المستفيدين من المحطة هم من يمارسوا رياضة المشي والجري، وأصحاب الدارجات الهوائية».
الجانب الثاني، تمثل في خوف عصام واخوته من «العبث في الموقع بالتخريب أو التكسير»، مستدركاً «أثبتت التجربة ان سلوك المستخدمين تجاوز حدود الرقي، بخلاف ما يُشاع حول الأماكن العامة. فبعد أشهر على افتتاحها؛ كل شيء في المحطة بحال ممتازة، لم يتعرض إلى أي تخريب أو سرقة».
أما الثالث فكان «روح المبادرة التي لم تكن في الحسبان من المجتمع الصفواني، حيث أن الثلاجة يتم تعبئتها عن طريق كل أهل صفوى، بمعدل كرتونين أو أكثر يوميًا، إضافة إلى ما نوفره نحن».
استنساخ المبادرة
يرى عصام الداؤود، أن المبادرات تكون «فردية، من دون أي تنسيق أو طلب؛ نساء ورجال وأطفال. وأشجع جداً على استنساخ الفكرة في موقع آخر، لثبوت ما ذكرت فعلياً، فالموقع يكاد يكمل عامه الأول من الافتتاح».
تواصل كثيرون مع صاحب المبادرة، لدفع مبلغ للمشاركة بالتعبئة اليومية، ولكنه اعتذر لهم، لأنه متعهد المشروع من بدايته. يقول «احترم وأقدر رغبتهم التي لها دلالة على حب الخير من أهل المنطقة».
عبدالغني آل خضر.
«انستغرام» صدقة جارية
أن يكون لك ابن يرث منك العمل الصالح، ليكمله عنك بعد مماتك، وباسمك، فهذا مصداق للحديث المأثور «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
هذا ما حاولت بنات المرحوم عبدالغني عبدالعلي آل خضر، فعله. فبعد وفاته بأيام أردن إكرامه، فأنشئن صفحة على منصة «انستغرام» باسمه، يدعون فيه كل من لديهم عزيز ويريدون إهداءه ختمة من القرآن، أو دعاء يومي، فما عليه إلا أن يكتب اسم المتوفى، ليكون مع ركب من سيصلهم – بإذن الله تعالى – ثواب قراءة ختمة قرآنية كاملة، أو صدقة يدفع بها البلاء.
كل هذا مجاناً، ففي القطيف تراوح كلفة الختمة القرآنية عن روح متوف، بين 50 حتى 200 ريال، تدفع للقارئ جزاء قراءته كتاب الله.
لماذا توجهت بنات آل خضر إلى مثل هذا العمل؟
تجيب ابنته هدى آل خضر «والدي (رحمة الله عليه) زرع فينا من روحه وقلبه الطيب الكثير والكثير، ولستُ لأنني إحدى بناته أقول هذا الكلام. لا؛ فكل من عرفه يشهد له بذلك»، مضيفة أن «هذه الروح الطيبة تسري في أجسامنا كما الدماء».
تتابع «منذ الأسبوع الأول الذي توفاه الله فيه؛ قررنا أن نتبنى فكرة عمل يستفيد منه الأموات والأحياء. فبادرت أختي ضحى آل خضر لتأسيس حساب على «انستغرام»، وتوزيعه صدقة جارية. ولقي إقبالاً كبيراً من الناس. وأصبح عملاً يومياً لا يمكننا التوقف عنه. كل واحدة منا نحن الأخوات أسست في هاتفها النقال مجموعة لإرسال الختمات والأسماء من الأشخاص الرغبين بقراءة القرآن لأمواتهم، أو من يرغب بقراءة القرآن معنا، مراعين بذلك تجويد القرآن وقراءته الصحيحة».
دعاء ختم القرآن بخط يد آل خضر ويحوي قائمة أسماء يهدى لها ثواب الختمة.
البنات يكملن المسير
في حياته؛ كان الحاج عبدالغني آل خضر لا يترك ختم القرآن. تذكر هدى «من الفجر وحتى الصبح؛ لا نجلس إلا على صوته وهو يرتل، ويهب ثواب قراءة القرآن لأبويه وأهله والعلماء والشهداء، يومياً على مدار حياته كلها، إلا أن توفاه الله العام الماضي في 21 ذو الحجة 1441هـ».
تضيف «أحب القرآن وقراءته، لم نتركه بعد وفاته، وإنما جعلناه صدقة جارية له. وها نحن ذا نختم القرآن للأموات، فجزاه الله ألف خير عنا».
مصحف عبدالغني آل خضر تحتفظ به بناته.
مصحف الوالد
تشعر هدى وضحى وبقية أخوتهما بـ«راحة، حتى وإن تعبنا، فقد أصبح عملنا مرتبطاً في حياتنا، وبركته علينا وعلى أخوتي ووالدتي (حفظها الله)، وإن شاء الله على والدي تكون كبيرة. نشعر وكأنه واجب علينا، ووالدي هو الطالب المجتهد الذي تفوق. والآن جاء دور المكافأة بأن نجازيه بالإحسان إحساناً، بعد مماته حتى قرأنه الذي كان يتلو فيه؛ مازال عندي، وأنا أقرأ فيه يومياً».
تضيف «والدي كان لديه مصحف كبير، داخله ورقة مكتوب فيها أسماء الأموات الذين يعرفهم. في أسبوع رحيله فتحته، وأكملت الأجزاء الباقية التي لم يقرأها قبل وفاته، وأهديت الثواب له ولمن أسماءهم مكتوبة في الورقة».
مع حفيدتيه ورد وفاطمة.
كرم وسماحة نفس
تعتبر هدى إكمال سيرة والدها في قراءة القرآن «عملاً عظيماً، ونتيجة كل طيب زرعه فيها؛ الحنان والحب والتواضع. ورغم أن والدي كان يأكل من قوت يومه؛ إلا أنه لم يبخل على فقير، كان يعطي ونحن لا نعلم. والكثير ممن يتوفاهم الله تسمع عن أعمالهم الطيبة بعد وفاتهم».
تشير إلى أن ما يقومون به هو «صدقه جارية، إذ نثوب أعمال نافعة للمرحومين، من بعد كتابة أسماءهم في نهاية كل أسبوع، يحصل فيها المتوفى ثواب ختمة القرآن والصدقة والدعاء إن شاء الله، كل ذلك ثواب لروح المرحوم عبدالغني آل خضر».
الهدف الأول لهدى وضحى واخوتهما «أن نسير على مسار أبينا. لم ينس الموتى في حياته، ودائماً يقرأ لهم القرآن، ونحن سنمشي على خطاه، سنكمل مسيرته، ولن ننسى المتوفين بالأعمال. وحتى لا تندثر الصور والذكريات الجميلة؛ خلدناها في الحساب، حتى الأحفاد يروا جدهم، ويدعو له بالرحمة. وأصدقاءه وأهله، وكل من يعزه؛ يتابعونا ويرون الصور ويدعون له بالمغفرة».
وترى أن إتاحة فرصة للناس لمشاركتهم الأعمال النافعة للموتى «لا ينقص عند تثويب الأعمال لأسماء كثيرة، بل تزيد من ثوابه. وندعو ربنا ان يثبتنا على هذا العمل».
اقرأ أيضاً: