راح الرايح.. الرجال استخفّ…!
حبيب محمود
سخطاً على الواقع؛ لا شفقةً على من أعنيه؛ حملتُ كلمة صديقي. فقد قال “راح الرايح”. وصديقي هذا كان يعلق على فيديو يبدو أنه انتشر، وظهر فيه رجلٌ، من أصدقاء الشباب الأول، وقد تجاوز الخمسين الآن.
ظهر الرجل في تصوير مظلم يتلو قصيدة ساخطة، غاضبة، يائسة، على من حوله وما حوله، ويكاد يفتح النار على واقع من وصفهم “أصحاب اللباس المطوّلِ”…!
في سنوات الشباب؛ قرأنا شعر “شكوى الزمان والحال”، وهذا النوع من الأدب سائدٌ في تراث أدب العرب، حتى أن دارسي الأدب الكلاسيكي أفردوا له “باباً”، مثل باب النسيب والمدح والجاء والرثاء والوصف.. كان باب “الشكوى” مستقلّاً بذاته، ومُمتزجاً بـ “الهجاء” غالباً، ذلك أن منبعه “شكوى”، وهدفه واقع ما. قد يكون الواقع عوَزاً، أو ظلماً اجتماعياً، أو حرماناً مما تجلد به الحياة أبناءها..!
ألم يقل عمّنا طرفة:
وظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضةً
على الحُرّ من وقع الحسام المهنّدِ
فما لي أرانيْ وابن عميَ مالكاً
متى أدنُ منْهُ؛ ينأَ عنّي ويبعدِ..؟
فهذه الشكوى منشؤها “ظلم ذوي القربى”، في حالة طرفة. وهي حالات سائدة في حياة الأدباء.. المقنّع الكندي، علي بن المقرب، المتنبي نفسه؛ أمسكوا بهذا الوتر؛ وضربوا عليه؛ استياءً وشكوى وألماً. بيد أن دراسة حياة هؤلاء، لم تُشر إلى ما نعرفه اليوم بـ “اضطراب الشخصية”. لقد تماسك هؤلاء الشعراء حتى ختام حكاية الشكوى، على العكس مما حدث مع شاعرٍ عاش مضطرباً منفصماً ومات ساخطاً؛ مثل ابن الرومي..!
صديقنا القديم؛ يبدو أنه قارب حدّ اليأس الساخط على كل شيء. أظنه دخل حالة “ابن الرومي”. وحين تابعتُ ما ينشره، أخيراً، وربطتُه بـ “الفيديو”؛ أوجستُ في نفسي خيفةً عليه. ذلك الشابُّ الذي عرفته ـ أواخر الثمانينيات ـ نابهاً لمّاحاً قارئاً مستقصياً، ومتحدثاً لبقاً؛ استحال كائناً يكاد “يستخفّ”؛ فيما ينشره عن نفسه، وبتوقيعه..!
علّق صديقي بقوله “راح الرايحْ”، وهذا التعبير نقوله ـ في القطيف ـ تعبيراً عن أسف الخسارة. ووصول الصديق الذي أعنيه إلى حدّ تصوير نفسه في الظلام تالياً قصيدة سُخط ونقمة على مجتمعه؛ لا يعني ـ عندي ـ مستوى الحسّاسية التي تُهيمن على الرجل فحسب؛ بل مستوى الانهيار الذي تأتي به المقارنات القاسية.. ألم يقل عمّنا الطغرّائي يوماً:
تقدّمتني أناسٌ كان شوطهمُ
وراء خطويَ؛ لو أمشيْ على مَهَلِ..!
هذه المقارنات لم تُشفِ الطغرّائي، ولم تحقق الراحة لابن الرومي الذي وجد أدباء عصره مسؤولين في الدواوين، في حين بقي فقيراً معدماً؛ لا يملك حتى قوت يوم عياله..! ولن تُريح المقارنات أحداً، فكلٌّ لا ينال إلا رزقه..!
أما المجتمع؛ فلن يرحم أحداً، ولن يفكّر أحدٌ في أحد، ولن يهتمّ إلا بـ “واقع الظاهر”، ولن يضع أحدٌ قدميه إلا على أرض مصالحه الخاصة.
أدعو لصديقي بالكفاية والكرامة وتجاوز ما هو فيه إلى سعادة خيّرة في الدنيا والآخرة. وأدعوه إلى التماسك والجأش الرابط.. وأقول له: أرجوك توقّف عن إعطاء خصومك ما ينتظرونه منك.