من أجل حوار هادف وموضوعي
السيد إبراهيم الزاكي
من الطبيعي في الحوار، كما كنّا نكرر دائماً، أن تتعدد الآراء والأفكار والرؤى، وأن يختلف المتحاورون حول القضايا والموضوعات التي يناقشونها، فكلٌ ينظر إلى الأمور من زاويته الخاصة. بيد أن المشكلة أحياناً ليست في الاختلاف وتعدد الآراء، ولكن في أسلوب الحوار، والطريقة التي يدار بها.
وحسب قول يوسف القبلان “فإن الكثير من الحوارات، سواء كانت في مواقع العمل، أو في البيوت، أو في الندوات والمؤتمرات، لا تفشل بسبب اختلاف الآراء، وإنما بسبب الكيفية التي يطرح بها الرأي. حين يبدأ أحدنا حواره مع الآخر بتصنيفه، ثم يسرد ما يؤكد هذا التصنيف، فهذه محاولة للهروب من موضوع النقاش بسبب ضعف الحجة. غير أن من يملك الحجة والحقائق ليس بحاجة الى شخصنة النقاش، أو رفع الصوت.
ويتساءل القبلان: أيهما أفضل في مسألة توجيه الانتقاد لعمل معين، أن نصف صاحب العمل بأنه جاهل، أو غير مسؤول، أم نضع الأداء تحت مجهر التحليل الموضوعي، ونبين الأخطاء ونقاط الضعف بالأدلة والبراهين؟”.(1)
وهكذا حين يخرج الحوار، أو النقد الموجه للآخرين، عن الموضوعية والتحليل المدعم بالأدلة والبراهين، بسبب الشخصنة، أو التصنيف، أو استخدام الأساليب غير اللائقة، مثل السب والتجريح وعدم الاحترام، أو التشكيك في الدوافع، حيث تهبط لغة الحوار في النقاش، وتتحول إلى لغة الشتيمة والهجاء، وتبادل الاتهامات الجارحة، عندها يخرج الحوار عن موضوعيته، ويتمسك كلٌ برأيه، كون المسألة خرجت من كونها نقاش أفكار إلى دفاع عن النفس، حتى وإن اتضح لأي أحد منهم بأن رأيه أو فكرته كانت خاطئة. لأن الأمر أصبح عناد ومكابرة وإصرار على التمسك بالرأي مهما كان خطئه، وبالتالي لن يكون الحوار موضوعياً، أو ترتجى منه الفائدة.
ولعل من أبرز الشروط التي لا بد أن تتوافر في أي حوار هادف ومنتج هو “الاعتماد على العلم والموضوعية، حتى يصل إلى النتائج المأمولة، بعد إسناده إلى المنطق العلمي الذي يجد إذناً صاغية لدى المستمع أو المتلقي، وحتى يركز الأرضية الصالحة لخطابه في صعيد الواقع، من خلال الحجة التي لا يملك الآخرون إلا أن يحترموها، حتى وإن جادلوا صاحب الفكرة في فكرته، أو حاولوا قطع الطريق عليه بهدف منعه من النفاذ إلى عقول الجماهير ونفوسهم.
وقد علمنا الله تعالى ألا ندخل في محاججة مع الناس إلا على أساس العلم والحجة، وأن ينطلق الحوار من خلال معرفتنا للقضية، لأن الجهل ينبغي أن يكون دافعاً للسكوت، أو للسؤال، وليس منطلقاً للجدال والمماحكة. قال تعالى:} ها أنتم هؤلاء حاججتم في مالكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم{…أما الذين ينطلقون في الحوار على أساس السجال بعيداً عن مفردات الحقيقة، فإنهم يشقون على أنفسهم، ويعطلون حركة المجتمع، وقد يُربُكون الأمة والمجتمع في سجالاتهم إذا سلكوا طريق الاتهام، أو اعتمدوا أساليب التجريح والشتم والتضليل التي تقود إلى الفوضى، أو تفضي إلى الفتنة”.(2)
إنه لشتان بين السجال والجدل العقيم، والحوار المنتج المفيد. ففي السجال كلٌ يخاطب نفسه ومريديه وجمهوره، ويطرب لسماع صوته، ولا يأبه بمخاطبة غيره. أما في الحوار فالكل شركاء وجلوس حول الطاولة يخاطب الواحد فيهم الآخر، فتطرح الأفكار والبدائل والحلول، والحَكم في الأخير هو العقل والمنطق في معالجة قضايا الخلاف والاختلاف، إلى أن يصل المتحلقون من حول الطاولة بالحوار إلى نتائج مقنعة وناجعة، بعيداً عن السجال والجدل العقيم، والذي لا ينتج إلا المزيد من التباعد والهوة والفرقة بين الفرقاء والمتحاورين، ويقطع صلة الوصل والتواصل بينهم.
حين يتردَّى مستوى التخاطب والحوار، وينزل إلى مستويات هابطه من التدني والانحدار، فإن ذلك يكشف عن مدى الخلل في آداب التخاطب وأخلاقيات الحوار، وهو الأمر الذي يدعونا إلى البحث والتفتيش عن قيم وتعاليم ترتقي بمفهوم الحوار ومعانيه، وتصعد بأساليب التخاطب وطرقه، إلى درجة من العلو والسمو والرقي، ترتفع فيه معاني الفضيلة والأخلاق والقيم، ليكون الحوار في معناه ومضمونه انعكاساً وتكريساً لتفاعل وجداني محوره القلب والشعور، قبل أن يكون ممارسه مادية شكلية عابره، تتمظهر في الشكل والإطار الخارجي، بعيداً عن المضمون والمحتوى الداخلي.
الهوامش
1- قل رأيك.. لكن كيف. يوسف القبلان. جريدة الرياض.
2- من كلام للسيد محمد حسين فضل الله.