التنظيم خلق حضاري
الشيخ حسن الصفار
التنظيم عنصر نجاح كبير في حياة الإنسان، لأن الإنسان المنظم في تفكيره وإدارته لأعماله وشؤونه، يكون أكثر استثمارًا لجهده ووقته، وأكثر تركيزًا وإتقانًا في أدائه، كما أن التنظيم يسهّل حركة الأمور وسير العمل.
إن تقدم وتطور الحياة المعاصرة يعتمد بشكل أساس على دقة النظم الحاكمة في مختلف ميادين النشاط والفعل الإنساني.
وكلما كان الإنسان الفرد والمجتمع، أكثر التزامًا ودقة في النظام والتنظيم، كان أكثر تقدمًا ورقيًا. كما أن الفوضى والارتجال والتسيب، في أداء أي عمل، وفي التعامل مع الأشياء، هي سبب للفشل ومظهر للتخلف.
النظام الكوني
وحين يتحدث القرآن الكريم في كثير من آياته عن دقة النظام والتنظيم في حركة الكون والحياة.
كقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} .
وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .
فذلك الحديث لإظهار عظمة الله وقدرته، ولإلفات نظر الإنسان إلى قيمة النظم والتنظيم ليبني حركة حياته على أساسها.
النظام التشريعي
والتشريعات الدينية، وفي طليعتها العبادات، تربّي الإنسان على النظم والتنظيم، فهي محددة في أوقاتها وكيفياتها، وهناك دقة تنظيمية في أحكامها وآدابها، كما هو واضح في أحكام وآداب الصلاة والصيام والحج، وسائر العبادات.
وتمثّل أحكام وآداب صلاة الجماعة مثلًا ونموذجًا واضحًا للتنظيم والترتيب. وذلك يقتضي أن يكون النظم محورًا أساسًا في منهجية وحركة حياة الإنسان المسلم القائم بهذه العبادات.
وفي التعاليم الإسلامية نجد التركيز على قيمة النظم في مختلف أمور الحياة. حيث يذكر القرآن الكريم، أن الفوضى من سمات الغافلين عن ذكر الله، والتابعين لأهوائهم، يقول تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} .
والفُرُط: تجاوز الحدّ. وقال أبو الهيثم: أمرٌ فُرُط أي متهاون به مضيّع، وفي تبيين القرآن للسيد الشيرازي: أي لا نظام له.
وجاء في وصية أمير المؤمنين علي (ع) التي وجهها للحسنين آخر حياته: (أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ).
إنه (ع) يوصي بنظم الأمور، بعد الوصية بتقوى الله، وقبل الوصايا الأخرى التي ذكرها.
النظام في حياة الإنسان
إن قسمًا من الناس يلتزم بالنظام والتنظيم، حينما يُفرض عليهم من خارجهم، كالأنظمة الحكومية، وأنظمة المؤسسات التي يعملون فيها، أو يتعاملون معها. وقد يسعى البعض للالتفاف على هذه الأنظمة أيضًا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
إن ذلك يكشف عن ضعف الوعي بقيمة التنظيم وأهمية الالتزام به. ويتجلى هذا الوعي أكثر في مظهرين:
الأول: إدارة الحياة الخاصة.
على الإنسان أن يعتمد التنظيم في تفكيره، وبرامج حياته الشخصية والعائلية، في أكله وشربه ونومه، وترتيب منزله والتعامل مع سيارته وأشياءه، وفي مجال علاقاته الأسرية والاجتماعية.
فقد تتكدس الأشياء مثلًا في مكتب الإنسان أو منزله، دون تنظيم أو ترتيب، فلا يستفيد منها إذا احتاج إليها، لغفلته عن وجودها أو مكانها، وقد يكدّس ما لا حاجة له فيه، مما استغنى عن استخدامه، فيبقى يشغل حيزًا، وقد يتلف، بينما يقتضي التنظيم وضع كل شيء في مكان محدد، ليمكن الوصول إليه عند الحاجة، وإذا كان زائدًا عن الحاجة يتم التخلص منه، بإعطائه لمن يستفيد منه، أو بإتلافه.
الفنّ السويدي للترتيب
نشرت جريدة الرياض بتاريخ 1 نوفمبر 2021م، تحقيقًا من ستوكهولم، بعنوان: عادة سويدية.. ترتيب البيت استعداداً للموت، ومما جاء فيه الفقرات التالية:
(هذا الفرز المعروف بـ “داستادنينغ” بالسويدية عادة قديمة في هذا البلد الإسكندينافي ينكبّ عليها الكبار في السنّ وشرحت أصولها الكاتبة مارغاريتا ماغنوسون (86 عاما) سنة 2017.
تقول الكاتبة في تصريحات لوكالة فرانس برس “يقضي الأمر بالاعتناء بكلّ التفاصيل التي سنخلّفها بعد وفاتنا”. وتوضح أن “ترتيب شؤون البيت قد يجلب ذكريات طيّبة، وإذا لم يكن الحال كذلك، فلا بدّ من التخلّص من هذه المقتنيات”.
إن هذه العادة تزيل في المقام الأول عبئا عن كاهل أقرباء المتوفى.
وتردف بحماس “أنا أثمّن غاليا العمل الذي أنجزته ويسعدني أن أرى أن هذه العادة باتت تنتشر في أنحاء العالم أجمع”.
تُرجم كتاب مارغاريتا ماغنوسون الذي يحمل عنوان “الفنّ السويدي للترتيب ما قبل الموت” إلى لغات عدّة وبات من “أكثر الكتب مبيعا” بحسب تصنيف صحيفة “نيويورك تايمز” وتضمّ صفحته على “فيسبوك” نحو 18 ألف متابع.
وتحصد صاحبة مدوّنة أميركية تطبّق مفاهيم الكتاب أكثر من 3 ملايين مشاهدة للشريط الواحد الذي تعرضه على الإنترنت. وتعود هذه الممارسات في السويد إلى تقليد منزلي قديم).
مأسسة الأعمال التطوعية
الثاني: تنظيم الأعمال التطوعية.
إن الأعمال التطوعية التي تحولت إلى مؤسسات كالجمعيات الخيرية، تعتمد التنظيم انطلاقًا من رسميتها، وكونها تحت رعاية النظام والقانون.
لكن هناك أنشطه تطوعية دينية واجتماعية، هي في حاجة لاعتماد منهجية المأسسة والتنظيم في أنشطتها وأعمالها.
وهنا لابد أن أشيد بالمبادرة الرائعة التي يقوم بها بعض المواطنين الأعزاء في المحافظة، لتنظيم وتطوير مهام إكرام الموتى، إلى جانب الجهود التي تقوم بها البلديات باعتبارها الجهة المسؤولة رسميًا عن هذا الشأن.
إن إكرام الموتى بتجهيزهم حسب الأحكام والآداب الشرعية، هو واجب ديني كفائي على كل المجتمع، لا يسقط إلا إذا تصدى له من يقوم به.
وبحمد الله فإن الدافع الديني والأخلاقي عند أبناء وبنات المجتمع، كان يحقق المطلوب في الأزمنة السابقة، ولكن مع تطور الحياة، وزيادة الكثافة السكانية، بدأنا نلحظ في السنوات الأخيرة الحاجة الأكثر للاهتمام بهذا الموضوع، وقد استجاب لهذا الواجب، عدد من المتطوعين من أبناء وبنات المجتمع جزاهم الله خيرًا.
لكن هذا الجهد التطوعي يحتاج إلى التنظيم والمأسسة، فلابد من وجود دورات لإعداد المتطوعين لإكرام الموتى، حتى يتعرفوا على الأحكام والآدب الشرعية، وكذلك الأنظمة والتعاليم الصحية المتعلقة بهذا المجال، وخاصة في تجهيز ضحايا الحوادث، والجوائح الوبائية، كوباء كورنا.
كما نحتاج إلى تطوير وسائل القيام بهذه المهام، بتوفير المواد اللازمة، وترتيب أوضاع المغتسلات والمقابر، ولا بد من نشر ثقافة مساعدة على التطوير، لوجود من يتمسك بالأساليب المتوارثة، مع أن التطوير مطلوب في إطار الأحكام والآداب الشرعية.
وحين نرجع إلى الأحكام الفقهية، والنصوص الدينية، حول إكرام الميّت، نرى فيها تفاصيل كثيرة، واهتمامًا بالإتقان، وأن يكون التعامل مع الميت لائقًا بكرامته الإنسانية، وقد أطلق النبي (ص) الشعار المعروف (إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ) في مناسبة ترتبط بإعداد وتهيئة قبر الميت.
ففي موسوعة جامع أحاديث الشيعة، التي أشرف على تأليفها المرجع الراحل السيد البروجردي (ت: 1380هـ) هناك (1532) حديثًا تتعلق بشؤون التعامل مع الميت، من حال الاحتضار إلى ما بعد دفنه والتعزية به، استغرقت (540) صفحة.
ومن عناوين أبواب الأحاديث في الموسوعات الحديثية يظهر اهتمام التشريع الديني، بأن تؤدى مراسيم إكرام الميت بأفضل صورة، وأحسن وجه.
فمثلًا نجد في موسوعة (وسائل الشيعة للحر العاملي) العناوين التالية:
- باب استحباب رفق الغاسل بالميت وكراهة العنف به
- باب استحباب كتم الغاسل ما يرى من الميت إلى أن يدفن
- باب استحباب كثرة الماء في غسل الميت
- باب استحباب إجادة الأكفان والمغالاة في أثمانها
- باب استحباب تشييع الجنازة والدعاء للميت
- باب جواز فرش القبر عند الاحتياج بالثوب وبالساج وأن يطبق عليه الساج (الساج: نوع من الشجر الاستوائي ذو أخشاب صلبة)
- باب استحباب ادخال الميت القبر ادخالًا رفيقا
- باب استحباب رش القبر بالماء
- باب جواز وضع اللوح على القبر وكتابة اسم الميت عليه
- باب استحباب زيارة القبور
- باب استحباب اتقان بناء القبر
- باب استحباب الرفق بالميت والقصد في المشي بالجنازة
إن هذه العناوين توحي بالاهتمام بشؤون إكرام الموتى، وذلك ما يقتضي التفكير والسعي لتطوير الأدوات والأساليب حسب تطور الحياة، وضمن الإطار الشرعي، وهذا ما نجده في بعض المناطق والبلدان، من توفير كل المستلزمات والأدوات، والإعداد المسبق للقبور، وتنظيمها بحيث يسهل الوصول إليها عبر طريق سالكة، وقد أدخلت التقنية الحاسوبية في بعض المقابر، بضبط أسماء الموتى المدفونين وتحديد مواقع قبورهم.
حفل تكريمي رائع
وقد أقيم ليلة الأربعاء (15 جمادى الآخرة 1443هـ) حفل تكريمي رائع، هو الأول من نوعه في المنطقة، لتكريم من يقومون بإكرام الموتى، حضره حشد من الفضلاء، والعلماء، والشخصيات الاجتماعية ما يزيد على (500) شخص، في قاعتين للرجال والنساء. وألقيت كلمات وقصائد. وتم تكريم أكثر من (650) من القائمين والقائمات بمهام إكرام الموتى في محافظة القطيف، ومن ضمنهم عدد من إخواننا السنة من أهالي المحافظة.
فللأخوة الذين قاموا بهذا الجهد الجبّار كل الشكر والتقدير، ونأمل أن تكلل هذه الجهود بقيام مؤسسات تطوعية رسمية تنظم وتطور هذا الجانب المهم من العمل الديني الاجتماعي.