نظرة علمية للهراء (1)

محمد حسين آل هويدي

بسم الله الرحمن الرحيم: … «220» هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُٰ «221» تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ «222» يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ «223» وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ «224» أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ «225» وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ «226» … صدق الله العلي العظيم – الشعراء.

الهراء ليس بالأمر الجديد على البشرية؛ ولا يزال مستمراً، وله مساحة كبيرة وقبول منقطع النظير. ودليل ذلك أن أكثر الناس يروّجون الإشاعات، بينما يرفضون ما توّصل إليه العلم ويروجون ضده. والهراء ضد العلم. والعلم يطلعنا كيف ينتشر الهراء ويعلّمنا كيف نقاومه.

إلى حد ما، كلنا هراء؛ خصوصاً، حين نحاول الخوض في موضوع أعمق من استيعابنا إذ نشعر بأن علينا المشاركة في الحديث. ولكن، لماذا كل هذا الهراء؟ الهراء منتشر في الثقافة البشرية، سواء أردنا ذلك أم لا، اعترفنا أم لم نعترف، فنحن جميعاً نساهم فيه. وغالبًا، نبالغ بقدرتنا في التعرف على الهراء وتجنبه. وهذه الفكرة بحد ذاتها هراء. ومع ذلك، لا يوجد فهم واضح للهراء، أو سبب وجود الكثير منه، أو الغرض الذي يخدمه. لنتعلم سبب ميول الناس للهراء. وإن عرفنا، حذرنا. واعلم أن هناك أساليب سائدة يستخدمها الهراء، وكيف نتجنب هراءهم، وكيف نساهم في تخليص البشرية من الهراء المتفشي.

الهراء والكذب ليسا سيان. بعض الهراء يظنون بأنهم يقولون الصدق، ويصدّقهم الكثير من الناس. وهذا يتجلّى فيمن يتبنى تسطح الأرض بدلا من كرويتها. ولا نستغرب حينما تدل الإحصاءات بأن 2% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية (6.5 ملايين شخص) يعتقدون بتسطح الأرض. وهؤلاء يعزون فكرة تكوّر الأرض للمؤامرة! أي أن كل العالم وجميع العلماء وجل المدارس وكافة الوكالات الفضائية تآمرت ضد هؤلاء ليخفوا عنهم حقيقة تسطّح الأرض! قبل أكثر من 2200 سنة نظّر أحد علماء الإغريق لكروية الأرض. وبعد ذلك بفترة قليلة، قام عالم الفلك الإغريقي إراتوستينس في منتصف نهار 21 يونيو بقياس قطر الأرض الكروية باستخدام عصايتين (أحدهما في سينا والأخرى في أسوان) من خلال قياس ظلالهما، ومقارنة الظلين مع بعضيهما (لن نخوض في التفاصيل). قد يقول الهراء والكاذب نفس الشيء، ولكن الفرق بينهما أن الأول يصدّق ما يقول، بينما الثاني يعرف الحقيقة، ولكنه يخفيها.

وبالطبع، هناك هراء مضر، وآخر لا ضرر فيه. ومثال على ذلك هراء رئيس أمريكا السابق دونالد ترامپ حينما ادّعى بأن المطر توقف أثناء خطابه الرئاسي يوم تنصيبه. وهذا هراء غير مضر. ولكن الهراء المضر الذي ادعاه ترامپ بأن استخدام المطهرات وحقنها كافٍ بأن يعالج المصابين بمرض كورونا. ويظن بعض الأطباء بأن وفيات قد حدثت بسبب هذا الهراء.

لا تستسهل الهراء لأنه يؤثر على كيانك؛ ذاكرتك، ومواقفك، ومعتقداتك، واتخاذ قراراتك. وإلّا، هل يوجد عاقل في هذه الدنيا يتبرك ببراز بقر تكثر فيه الجراثيم الضارة، وثم ينبطح لتدوس عليه البقر بأظلافها؟! بالطبع، البعض يضحك على الهندوس ويستسخف تصرفاتهم، ولكن تبقى عَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ. ومثال صارخ على الهراء يحدث في بعض المطاعم بحيث تقدم لك وجبة تدفع فيها عشرة أضعاف التكلفة، أو ما يزيد.

يا ترى، لماذا يدفع الناس هذه الأسعار الفاحشة ويشعرون بالرضا؟ قام بضع العلماء ببعض الأبحاث واكتشفوا ثلاثة أسباب. أولا، إن كان الهراء يتماشى مع قناعاتنا أو ما نتمناه، فإننا في الغالب نفضل هذا النوع من الهراء على الحقيقة. مثلا، منكرو تغيّر المناخ العالمي يفضلون الاعتقاد بأن الاحتباس الحراري مجرد خدعة نظمها زعماء المنظمات التي تخفي الحقائق على الناس، وذلك اعتمادا على نظرية المؤامرة العالمية. هؤلاء المنكرون يتمنون أن يعيشوا في أرض لا يؤثر عليها البشر سلبا، ولذلك يهملون كل الأدلة العلمية التي تؤكد الاحتباس الحراري. وفهم الموضوع ليس بذلك التعقيد. جزيء ثاني أكسيد الكربون الذي تنفثه عوادم السيارات عبارة عن مُخَزِّن للحراة. ومستوى هذا الجزيء على سطح الأرض يتزايد باطراد.

ثانيا، وبما أننا مجبولون على التصديق، نحن نصدق أي شيء نسمع به أول مرة إذ نميل بأنه حقيقة. ومن المؤسف، ما أن نؤمن بشيء ما، يكون من الصعب جدا تغيير رأينا فيه لاحقاً، حتى وإن تبيّن بطلان هذا الاعتقاد. في الغالب، عندما يتلقى الشخص معلومات إيجابية حول أمر ما فإنه سيتبنى موقفا إيجابيا تجاهه.

وأخيرا؛ في الغالب، يعتمد البشر على الحدس، وكم هو خدّاع. قام عالِمَا الإدراك ستيڤن سلومان (Steven Sloman) وفيليب فِرْنباخ (Philip Fernbach) بتجربة إذ عرضا أجهزة معينة على متطوعين الذين سِئُلوا إن كانوا يعرفون كيف تعمل هذه الأجهزة. وأجاب معظمهم بالإيجاب، بالرغم من أنهم لا يمتلكون المعرفة الكافية لكيفية عملها. مثلا، عندما تُرِي شخصا هاتفا ذكيا وتسأله أن كان يعرف كيف يعمل، فسيرد بالإيجاب لأنه وجد نفسه قادرا على استخدامه، وعليه معرفة تفاصيل الجهاز لن تكون أصعب من طريقة استخدامه.

من السهولة جدا أن يبتكر أيٌّ منا هراء، ولن يتعدى الأمر ثواني قليلة. ولكن التراجع عن تبني هذا الهراء قد يحتاج إلى سنين مطولة وإعادة برمجة للدماغ، من جديد. ومن هنا، نعرف بأن الهراء يؤثر على ذاكرتنا، ومعتقداتنا، ومواقفنا، وقراراتنا.

ومثال الهراء الضار ما قام به رئيس الصين السابق، ماو تسي تونگ، في منتصف القرن المنصرم، حينما صرح بأن العصافير تأكل المحاصيل، وعليه تؤثر على الإنتاج سلبا، حتى أباد المزارعون ما يقارب أربعة ملايين عصفور. إلا أن النتيجة أتت على عكس التوقع بحيث فشلت المحاصيل بسبب تفشي الدود والآفات الزراعية التي تتغذى عليها العصافير، مما أدى لمجاعة وموت 36 مليون شخص، أي بمعدل 9 أشخاص قبالة كل عصفور.

وللحديث بقية …

تعليق واحد

  1. مقال يفضح عورة اصحاب الهراء ومصدقيهم ولنا امثلة معاصرة لضحايا الهراء والاحتيال كالهراء الذي افلس جيوب الالاف عندما صدقوا ان هناك كنز في ماكينة الخياطة..هذا مثال من الهراء الضار والضار جدا حيث انه اصاب رزق البسطاء قبل الاغنياء في مقتل..ويستمر مروجوا الهراء مادام هناك من هو مستعد لتسليم عقله لهرائهم وهذا ما يعول المحتالون عليه..شكرا للكاتب على مقاله الهادف

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×