رحيل آخر العارفين بأسرار “شقة الحرية” عبدالله الشيخ.. من "القديح" إلى "فريق الحطب" إلى بلاط الملوك وأعلام الأدب
كتب: حبيب محمود
وفاة الشاعر عبدالله الشيخ، عن 95 عاماً، تعني رحيل آخر العارفين بما أحاط بـ “شقة الحرية” من أسرار وغموض والتباس.
“شقة الحرية” هي الرواية التي فتحت باب التأويلات منذ صدورها عام 1994م. هي الرواية الأولى والأكثر رواجاً من مؤلفات الدكتور غازي القصيبي؛ إنها الرواية التي أسّست نهجاً سرديّاً في المشهد السعودي لم يُغلَق حتى الآن؛ في أدب السرد الذاتي، أو ما يُعرف بـ “الرواية السيرية”.
وحين صدرت؛ خُلط حابل أدب السرد بنابل الحياة الشخصية، ووُضع الدكتور القصيبي على منضدة التشريح، ليكون هو شخصية “فؤاد”، وزملاء دراسته في القاهرة هم الأبطال، حسب تفسيرات العارفين بـ “طلاب القاهرة” الذين تطوّرت حياتهم فيما بعد، وأصبحوا من الشخصيات المرموقة، في السعودية والبحرين.
ومع أن القصيبي قدّم لروايته بما يدعو إلى تجاوز أي تفسير؛ فإن قرّاء الرواية ربطوا أحداثها بالمؤلف وبالذين رافقوه إلى القاهرة ليدرسوا ويسكنوا معاً.
ولم يكن عبدالله الشيخ واحداً من الذين سكنوا مع القصيبي، أو درسوا معه تماماً، بل درس بعده، ونال البكالوريوس في الحقوق والماجستير بعد عودة القصيبي إلى المملكة العربية السعودية. لكنّ ابن عمّه محمد صالح بن الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح بن الشيخ أحمد آل طعان؛ زامل القصيبي فعلاً، وساكنه في مصر فعلاً، وارتبط به، وربما كان هو واسطة التعارف بينه وبين القصيبي. وهو تعارف تحوّل إلى صداقة امتدّت حتى وفاة القصيبي في 2010م.
والعلاقة التي ربطته بابن عمه “محمد صالح” لم تنحصر في قرابة الدم، بل عاش معه في بيت واحدٍ؛ بعد انتقاله من السعودية إلى البحرين، وعاش في بيت عمه الشيخ عبدالله، والد “محمد صالح”. وهذا ما يجعله قريباً جداً من “الأشخاص” الذين زاملوا القصيبي وساكنوه في القاهرة، وعارفاً بـ “شخصيات” الرواية المثيرة للجدل.
في إحدى زوراته لمسقط رأسه، القديح، تطفّلتُ عليه بأسئلة حول ما يُحيط بالرواية من تساؤلات وتأويلات؛ فأظهر براعة عالية في تأكيد ما قدّم به الدكتور القصيبي روايته؛ لكنّي لم أقتنع بشيء، وقتها، قدر قناعتي بأنه من العارفين بأدقّ التفاصيل، والأكثر احتراماً للصداقة، وللأدب.
قلبي معك
رحل كاتب الرواية منذ أكثر من عقدين، ورحل جميع زملائه، بعضهم قبله، وبعضهم بعده. وبقي وفاء الأصدقاء، وأدلة قوة الصداقة، ليس في الصمت فحسب؛ بل في الكلام أيضاً.
وما ربط بين القصيبي والشيخ؛ يبدو أقوى مما تُشير إليه حتى الصور التي تجمع الرجلين، فحين توفّي الشاعر الخليجي إبراهيم العريض في 2002؛ وهو صهر عبدالله الشيخ؛ أرسل القصيبي إليه تعزية بخط يده، لكنها لم تكن رسالة تعزية نمطية.. ختم القصيبي رسالته بكلمة “قلبي معك”، وقبلها قال “وأنا أعرف كم كنتَ لصيقاً به، وأعرف مدى الفراغ الذي سيتركه في حياتك، وفي لحظات مثل هذه؛ تبدو كل الكلمات ضعيفة وشاحبة وعاجزة عن التعبير”..
وكلمة “قلبي معك”؛ لا تُقال إلا إشارة تنمّ عن قرب القائل والمخاطَب، وتدل على قربٍ آخر بـ “شاعر عظيم لن يسدّ فراغه أحد”، حسب وصف القصيبي للشاعر المتوفّى إبراهيم العريض. وهذا القُرب هو الذي فسّرته رسائل تعزية تلقاها الشيخ في وفاة عمه “الأستاذ العريض”.. بينها رسالة من الشيخ علي الخليفة الصباح الذي أبرق له من الكويت معزّياً.
شهادة القصيبي تعزّزها شهادة شاعر آخر هو تقي البحارنة الذي قال عنه “عرفته صديقاً وشاعراً”، و “ملازماً لعمه الأستاذ إبراهيم العريض في صحوه وفي مرضه”.
فريق الحطب
قرب عبدالله الشيخ من عائلة العريّض ومن غازي القصيبي أكثر من ذلك. وهذا ما كشفت عنه الدكتورة ثريا العريض، عضو مجلس الشورى السعودي السابقة، وهي شقيقة زوجة عبدالله الشيخ.. الدكتورة ثريا تحدّثت عن “فريق الحطب”، في منامة البحرين، حيث نشأت في بيت والدها الأديب الكبير إبراهيم العريض. سُمّي الحيّ بهذا الاسم، بسبب تجميع “السعف والكرب والجذوع” لاستخدامها في الطبخ أيام عاشوراء في المنامة. وبالقرب من “فريق الحطب” كانت منازل “النجادة” مصطفّة، منازل القصيبي والسحيمي والقاضي والبوحيمد، وغيرهم، في مكان تتجانس فيه الطبائع العربية وتنعدم الفوارق.
بالقرب من “فريق الحطب” يقع منزل الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح آل طعان.. المنزل الذي عاش فيه “عبدالله” شطراً من حياته، بعد انتقاله من مسقط رأسه، القديح. وفي محيط “فريق الحطب” تعارف شقيقها جليل بن إبراهيم العريض، وعبدالله الشيخ، مع يافعي الحيّ في أواخر الخمسينيات. وهنا انتقلت العلاقة مع الابن “جليل” إلى “الأستاذ إبراهيم”، حسب كلام الدكتورة ثريا.
وبفضل ميول الأدب والشعر تطوّرت العلاقة، ليتقدم “ابن الشيخ” لابنة “العريض” الثانية، السيدة لولوة. وفي 1961؛ تزوّجاً، ثم أكملا معاً الدراسة الجامعية انتساباً لجامعة القاهرة. تخصصت هي في الرياضيات، وتخصص هو في الحقوق، وهي اكتفت بالبكالوريوس، وهو واصل إلى الماجستير.
قبل زواجه؛ كان “عبدالله” قد أسس لنفسه تجارة له في الملابس، يستوردها من لبنان، ويعرضها في محل له في شارع الشيخ عبدالله. هذا الكلام للدكتورة ثريا أيضاً. وتقول عنه أيضاً “ولْد اشيوخ”، وتعني أنه كان يتحرّج في الخوض في التفاصيل المالية، ويبدو أنه لم يوفّق في التجارة لهذا السبب.
عبدالله.. الموظف
اتجه بعدها إلى العمل الوظيفي، قانونياً في وزارة العمل البحرينية، وبقي فيها إلى أن أكمل الستين، ليُعيد التفكير في العمل الحرّ مجدداً، وهذه المرة في وطنه، السعودية. وفعلاً أسّس مكتباً قانونياً له في المنطقة الشرقية، وسعى صديقه الدكتور غازي القصيبي إلى دعمه، حين كان وزيراً للصناعة والكهرباء، لكن سرعان ما انصرف الشيخ عن المشروع، بعد إعفاء الدكتور القصيبي من منصبه سنة 1404هـ.
من اليمين: الأمير فيصل بن فهد، عبدالله الشيخ، غازي القصيبي، رحمهم الله، في حفل افتتاح جسر الملك فهد، 1986
رفيق افكار
ومثلما كانت الصلة بين الرجلين صلة صديقي صبا، ورفيقَي أدب، وشريكي أفكار؛ استمرّت في عنفوانها، وتقوّت أكثر؛ حين عاد القصيبي ليعيش في البحرين مجدداً، ليس بصفته ابن تاجرٍ كبير كما نشأ وشبّ، بل بصفته سفيراً لبلاده حتى عام 1992م. وفي حفل افتتاح جسر الملك فهد، بحضور الملك فهد والشيخ عيسى، رحمهما الله، سنة 1986م؛ وقصيدة القصيبي في الحفل:
ضربٌ من العشق لا دربٌ من الحجرِ
هذا الذي حمل الواحاتِ للجُزُر
كان عبدالله الشيخ موجوداً، بصفته شخصية سعودية مرموقة تُقيم في البحرين. وتدلّ الصورة التي تجمعه بالملك فهد، لقاء عارفٍ به، منذ زمن الملك خالد، رحمه الله، الذي ألقى عبدالله الشيخ قصيدة مطوّلة في الديوان الملكي، مطلعها:
أرخيتُ للشرف الرفيع عناني
ونذرتُ للمجد المنيع بياني
مع الملك فهد رحمه الله
ويبدو أن الصلة بين الأسرة السعودية الحاكمة والشيخ سبقت ذلك؛ فحين زار الملك سعود، رحمه الله، البحرين سنة 1374؛ بعد زيارته لمصر؛ كان الشيخ في قائمة المحتفلين بزيارة الملك شاعراً..
كلّما طفتَ للعروبة قطراً
فيه شاهدتَ هانئاً أفراحَهْ
لم تكن مصرُ بالوحيدة في
الأمر، فشعبُ البحرين هنّاْ صباحهْ
والقربُ بين القصيبي والشيخ لم يكن هيّناً، منذ خمسينيات القرن الماضي إلى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة؛ نبتت أغصان الصداقة والمودة.. وحين رحل القصيبي، سنة 2010؛ رثاه الشيخ:
إن شيّعوهُ فعيني لا تُشيّعُهُ
أو ودّعوهُ فروحي لا تودّعهُ
يظلُّ ملءَ جفوني، ضوءَ ناظرها
أُضيْعُ صفو الليالي لو أُضيّعهُ
لي في الصباح ربيعٌ من بشاشتهِ
وفي المساء هزيعٌ منه يجمعُهُ
بمن أضاهيهِ من شتّى نظائرهِ
لا أخلف الله عهداً فيه أقطعُهُ..!
أبا سهيلٍ، حرامٌ أن تفارقني
والعيشُ أنتَ وريّاهُ وريّعُهُ
بين الخط والبحرين
شعرٌ بهذه الحيوية؛ غريبٌ عليه ألا ينتشر كثيراً، ولا يعرفه إلا النخبة المحيطة به من جيله. إنه شاعرٍ بارع لم يشغل باله بالنشر، إلا في نطاق محدود. ومنذ شبابه الأول؛ بدا مُقلّاً. مع ذلك؛ يبدو الإقلال ثريّاً طرياً حياً.. فحين عاش الحيرة بين مسقط راسه، القطيف، ومسقط قلبه البحرين، آل إلى قوله:
من ذا يعافُ الخط؟ كيف تركتَها..؟
من قال ذاك؟ وفي القديح شبابي
وعلى الضفاف الباسمات ملاحني
وعلى الروابي الضاحكات رغابي
قلمت من قصب الغدير يراعتي
وأخذت من لحن الخرير ربابي
طالعتُ في كنف الفسيل جريدتي
وقرآتُ في ظل النخيل كتابي
ولكن:
إن كان لي في الخط أكرمُ عصبةٍ
فهنا وجدتُ أحبتي وصحابي
وهناك من خضر النخيل مظلتي
وهنا من الرمان والأعنابِ
ماذا أقصّ عليك من قصص الهوى
وهواي طار به جناح عُقاب
وطفقتُ لا أدري طريق سلامتي
لكنني أدري طريق صعاب
والحيرة ذاتها؛ تردّدت وهو يحتفل بزواج الإعلامي محمد رضا نصر الله، متحدثاً عن القطيف:
حبيبيَ ما جنّبتُ “خطيَ” لحظةً
هواك هواها، كم يدوم يدوم وكم يقوى
تعشّقتُها طفلاً، وقد شاب مفرقي
وما انفكّ عشقي ذلك الفارس الأقوى
تزوجتُها خمسين زيجةَ، ما خبا
جمالُ جميلٍ ما رأيتُ لها صنوا
وأحببتُ منها ألف ألف جميلةٍ
فعلّمتهنّ الطهر والفخرَ والزهوا
شاعر مقل
حين شرع ابن أخته، عبدالكريم محمد الشيخ علي البلادي، في جمع أدبه؛ واجه صعوبةً في تعقّب آثاره المتناثرة، والمخطوطة، على قلتها أيضاً. وحتى الآن؛ بالكاد انتهى من جمع 22 قصيدة، ومقالتين. وخلال الأيام الأخيرة؛ عثر الشاعر عدنان العوامي على قطعة من 6 أبيات، نشرها في نوفمبر 1952؛ في مجلة “العرفان” اللبنانية. إضافة إلى قصيدة لعمّه الشاعر إبراهيم العريض، جاراه فيها بالاشتراك مع الشاعر تقي البحارنة.
عدا ذلك؛ فليس هناك من إنتاج وفير. إلا إذا كان في تركته الثقافية وأوراقه، ما يكشف عن إنتاجٍ مخطوط.
أقدم قطعة منشورة للشاعر عبدالله الشيخ، في مجلة العرفان اللبنانية، نوفمبر 1952
سيرة موجزة
- عبدالله بن الشيخ جعفر بن الشيخ محمد صالح بن الشيخ أحمد آل طعّان.
- وُلد في قرية القديح، 1348 أو 1347 أو 1345هـ.
- مباديء القراءة والكتابة تعلّمها على يد المعلم السيد محمد علوي الشميمي، توفي 1412هـ.
- تعلّم الخط عند الملا علي الرمضان، توفي 1397هـ.
- النحو والصرف والبيان درسه على يد والده الشيخ جعفر، توفي 1395هـ.
- تزوج، أولاً، في القديح، من السيدة علوية بنت هاشم الخضراوي، ولم يستمرّ زواجهما. وقد أنجب “محمد” وابنتين توأماً، توفوا صغاراً، ثم “نجيبة”.
- قرأ الفقه وعلم الكلام، في البحرين، على يد عمه الشيخ عبدالله، توفي 1381هـ.
- انتقل إلى البحرين، ودرس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، أثناء اشتغاله بالتجارة.
- تزوج، للمرة الثانية، من السيدة لولوة، كريمة الشاعر إبراهيم العريض، سنة 1381، وأنجب منها: مازن، د. هالة.
- التحق بجامعة القاهرة، منتسباً، وحصل على البكالوريوس ثم الماجستير في القانون.
- التحق بالعمل الحكومي في البحرين حتى تقاعده، وتفرّغ بعدها لحياته الخاصة.
صور من أواخر حياته
صور من مناسبات رسمية في مملكة البحرين
صور من مراسلاته مع شخصيات أدبية وسياسية
مقال يبين عظمة القصيبي أكثر من المعنون له رحم الله الجميع.