“مقال” أثير السادة: منبهات الحنين..صور مأخوذة من أرفف الذاكرة
أثير السادة |
تحاول هذه الصورة أن تقنعنا بأنه حتى اللبن والحليب والعصير في الزمن القديم كان له طعم ورائحة ووقع في النفس يختلف عن منتجات اليوم، هذه الغابة من الألوان يغيب فيها عقل المأخوذين بداء النستولوجيا وهم يديرون شريط الذكريات مرة بعد مرة، كلما تقدم بهم العمر، فينال كل شيء قديم مديحاً طائشاً، حتى لو كان قطعة حلوى، أو صندوقاً حديداً، أو “أنتينا” نسيه الزمن فظل معلقاً فوق البيوتات!.
تزعم أفعال الاستذكار تلك أن القديم كان جميلاً، فتمضي بنا للاقتناع بأن الحاضر أقل بريقا منه، وهذا عينه ما يوسع من دائرة المقارنة بين الأمس واليوم حين النظر إلى الكثير من صور الحياة، يحاول البعض أن يستدرك بين السطور بأن التعب كان قرينا أيضا لحياة الأمس، لكن المسافة التي تباعد بيننا وبين الأمس تكفي لطلاء كل الصور السلبية بطلاء التآويل المنذورة للفرح بأمسنا، فهنا الأمر منذور للاحتفاء بالضوء العابر من الذاكرة.
ليس مخطئا من يتأبط فرحه وهو ينظر إلى صور الذاكرة، هو فقط غير مشغول إلا بنفض الغبار عن سيرة ما، سيرة لا يراد لها أن تنسى، فعلبة اللبن في الصورة المزبورة ليست إلا طفولته في الظهيرات وهو يقطع الطريق إلى البقالة مشياً، ومدينته/جماعته الصغيرة وهي تكبر في أرفف المحلات وأرفف الذاكرة، وعائلته التي استدارت مرارا في كثير من الدفء حول تلك المائدة التي تلونت بلون هذا الحليب وذاك اللبن.
هذه الصور ليست إلا منبهات للذاكرة، يفوق فعلها فعل القهوة في إيقاظ كل الحواس الناعسة، سيبدأ الحديث بعلبة الحليب وينتهي بخارطة من التحولات التي ستفعل فعلها في الناس وفي رسم خارطة المدينة، سيبدأ بالكلام عن طعم الرشفة الأولى ليقف بعدها على حدود منادمة الحواس لتفاصيل المكان في يوميات الطفولة، حزمة من العلب البلاستيكية والورقية تكفي لرفع دفاتر وكراريس بطول عقود من الزمن مرت كموجة تاهت بنا فأدخلتنا في دوامة المقارنات الدائمة.
الكثير من هذا الحنين اليوم يبدو مخاتلاً، ومأخوذاً بالخيبة من ماض لا يمكن استعادته، وحاضر نخشى أن لا نحسن إدارته، ومستقبل لا نعلم كيف نستقبله، والقليل منه هو عطش فطري لطعم الطفولة وأحلامها، ومتعة المغامرات الأولى في الحياة، ومحاولة لاكتشاف إيقاع الحياة ومسيرتها.
وبس.