ملكوت النّهام.. وسواد الرادود
حسن دعبل
لا أعرف سرّ شغف وسحر الرادود بغصّة النّهام..!
الرادود حبيس الصوت والمكان؛ متسربل بالثوب والثواب. الرادود من ضاقت به غصّته مجترّة بدمعةٍ لم تغطّها الجفون. أما النهام فهو الصارخ الباكي الضجر في دياجير مظلمة غالبها الفراق والبعد والفاقة، والجوع والعطش. ملتحف السماء بخشبة مدوسرة على صفحة الماء.
النهام الذي حفظ “لـِزْهيري” و “لـِمويلي” ومن “شيلات” البحر الكثيرة، اشتق اسمه وصفته وصوته الضجران بفراقه وعذبه وقوته وحلاوته وحسرته، من ذاك الضجر الباكي وغربته الحبيسة في البحر، وربما قاربها الباحث عن معنى مهنة النهام وصوته بالأسد والفيل في قوته وصرخة الضجر.
فهل يدرك الرادود وهو يسطو بصوته، أن النهام مهنة بحرية خالصة، عرشها “فنّة” الأبوام والمحامل والخشب، وفراشها اليم. فمهنة النهام مكملة لباقي مهن الغوص: الغيص، السيب، لِمجدمي، السكوني، الچنّان، والخنّان…..
والنهمة في الأصل مهنة مرتبطة بالعمل على ظهر السفينة؛ لها قواعدها الخاصة والثابتة في الأداء واللون. فلكل نهمة وغناء عمل مناسب وأداء. فالخطفة أو رفع الشراع وإنزاله له ضوابطه وايقاعه. فكما لكل ريح شراع، أيضاً لكل خطفة شراع نهمة خاصة وأداء؛ فلو كانت الرياح سريعة أو خفيفة، هناك نوع معين من الخطفة والشراع، فخطفة القلمي نهمته تختلف عن خطفة الجيب، أو خطفة التركيت وشراع العود، وحتى السفديرة.
فلكل دوران وخطفة رقصات وغناء، وأداء في العمل. هذا غير المهن الأخرى الذي تفنن بصرختها النهام، وهو يشحذ الهمة والعزم، منهيها بلم ّالجيب الشراع، وچسيه، وصرخته الداوية على هيرات المحار المظلمة.
فلو أدرك الرادود المتسربل بسواده، أن لليابسة ألوانها وايقاعاتها وأطوارها التي يتفنن بترديدها، فلن يبلغ الفلك، ولا ينبغي له.
فالنهام ملكوته البحر حتى يصل اليابسة.