[3] نظرة علمية للهراء.. أموال طائلة.. وزهو وجماهير مغفّلة
محمد حسين آل هويدي
بسم الله الرحمن الرحيم: … «15» وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا «16» … صدق الله العلي العظيم – مريم.
البشر يُنتجون المزيد من الهراء عندما يشعرون بأنهم ملزمون أو حينما يتوقع منهم الآخرون المساهمة في الرأي. كان للفيلسوف هاري فرانكفورت (Harry Frankfurt) رأي معين تجاه الهراء؛ وذلك عندما يُطلب إلينا الحديث في أمر لا نحمل عنه الدراية الكافية. وفي ذلك، يرى جون پِتْروسِلي (John Petrocelli) الذي بحث في الأمر واتضح له أن البشر يهرفون بما لا يعرفون حينما يسألهم الآخرون عن رأيهم، حتى لو لم يكن لهم في الأمر ناقة أو بعير.
في الغالب، البشر يلجؤون إلى الهراء حينما يناقشون آخرين أقل منهم رتبة أو معرفة. وهذا ما أشار إليه الإمام علي في قوله: “وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق“. ولقد قام پِتْروسِلي برصد الموضوع إذ لاحظ أن أكثر من 40% من أصحاب الهراء يهرفون حينما يقابلون أشخاصاً جدداً، بينما تقلُّ هذه النسبة إلى دون 30% حينما يتحدثون مع شخص مطّلع.
نحن نهرف حينما يتوقع منا الآخرون ذلك، ونتوقف عن الهراء حينما لا نجد أذنا صاغية، أو حينما نناقش شخصاً مطلعاً يستطيع كشف هذا الهراء بسهولة. عندها، نلجأ لغيبة هذا الرجل خلفه وقتما نجتمع مع من يحبون الاستماع لهرائنا.
ولكن، وبسبب طبيعة البشر، يميل البعض للهراء أكثر من غيرهم، خصوصا إن كان الهراء يدر عليهم أموالاً طائلة. ويشعر هؤلاء الهراء بالزهو، وإن علموا أن ما يقولونه هراء، حينما توافقهم الجموع، فما بالك حينما يجدون الجموع المخدوعة يستميتون في الدفاع عنهم. ومثال هؤلاء الهراء الإعلامية الأمريكية والشخصية الاجتماعية المعروفة كايلي جِنّر (Kylie Jenner) التي تتقاضى مليون دولار عن كل منشور دعائي في إنستغرام. ولذلك هي ليست مسؤولة عن المحتوى أو يهمها أن تأتي بالأدلة والبراهين طالما الناس تصدق الهراء، بل وبعضهم يرجحونه على الحقيقة، بالإضافة إلى زيادة انتفاخ كيس المال.
المطلعون والعارفون والمقتدرون والباحثون الحقيقيون ليسوا بحاجة للهراء. بل هم على العكس تماما بحيث لا يصدرون أحكاما إلا في حال التأكد إما بالتجربة أو الرجوع لأكثر من مصدر معتمد. هؤلاء يحظون بالمنزلة عند العارفين، وهم في غنى عن تأييد الهمج الرعاع لهم، لأنهم حينها سيشكون فيما يقولون لو حصلوا على تأييد منقطع النظير من الجماهير الغفيرة. لهؤلاء جمهور خاص، وإن قل. ولكنهم يطلبون الجودة ورد الأمانة، وليس لهم أي مصلحة في الكذب أو الهراء لأن مصداقيتهم بالنسبة لهم أهم بكثير من تضخم أرصدتهم البنكية. ولقد أكد هذا الأمر عالم الرياضيات الروسي غريغوري ياكوڤليڤيتش پيرلمان (Григорий Яковлевич Перельман) الذي رفض جائزة الرياضيات بمقدار مليون دولا حينما حلّ معضلة پوانكريه (Poincare Conjecture) والتي ظلت على طاولة البحث لمدة سبعة عقود دون حل.
العوامل النفسية؛ خصوصا للمهزوزين والهامشيين، تجبل الإنسان للشعور بالانتماء لمجموعة ما، وهذه فطرة بدائية ساعدت البشر على البقاء لأن المطرود من الجماعة حينها لن يصمد أمام الضواري والأخطار المحدقة من كل جانب. ولذلك، درج الناس على حب الانتماء لتجنب الإقصاء. وهذا يدفعهم للزيادة في الهراء وقبول هذا الهراء. ومن وصل إلى نتيجة معرفية ما، لن يتنازل عنها لأجل أن يرضي الجموع الهشة لأن معايير البقاء تغيرت حتى أصبح العارف منهم يفضل الانعزال عن البشرية على أن يقبل هراءهم، حتى قال أحدهم: “قطيعتي للناس لا تعني أنني أكرههم. ولكن هذا يعني أنني أحترم نفسي”.
اقرأ الحلقتين السابقتين