مكتبة “حسن كامي”.. إرث ثقافي تنازعته الأحلام.. والأطماع
القاهرة: صُبرة
في منطقة عابدين، وسط العاصمة المصرية القاهرة، تقع مكتبة المستشرق التراثية L’orientaliste bookshop، لم تكن مكتبة عادية كتلك التي تنتشر هنا أو هناك، ولكن كانت لها نكهتها الخاصة لأنها تحمل في موقعها المكاني العريق وبين جنباتها قصصا وروايات تصل إلى أن تكون بذاتها تاريخاً خاصاً.
المكتبة التي ذاع صيتها في السنوات الأخيرة لما تضمه من المخطوطات واللوحات والكتب النادرة والكنوز الثقافية الرائعة، معظمها ينتمي إلى القرن التاسع عشر، فعدد الكتب وحدها يتخطى الـ 22 ألف كتاب.. يملكها الفنان الأوبرالي المصري الراحل حسن كامي محمد علي، وشهرته حسن كامي (14 أكتوبر 1936 ـ 14 ديسمبر 2018) وأثارت الكثير من اللغط والجدل.
وتعود قصة مكتبة “المستشرق” التي كان يمتلكها الفنان المصري إلى نهاية القرن الـ 19، إذ أنشأها شخص سويسري يهودي مقيم في مصر يدعى “فيلدمان” وجمّع مجموعة من الكتب التاريخية والتراثية والمخطوطات المهمة بداخلها، ما جعلها مقصداً لجميع الباحثين والمستشرقين من جامعات أوروبا خلال فترة وجيزة.
وانتقلت ملكية المكتبة إلى المصري شارل بحري، بعد أن غادر فيلدمان مصر بعد حرب العدوان الثلاثي 1956، واعتاد حسن كامي التردد على المكتبة الكائنة بوسط القاهرة خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات، وزاد شغفه بشراء واستعارة كتب المكتبة، لكن صاحب المكتبة وقتها كان يرفض بيعها أو إعارتها، الأمر الذي دفع كامي للتفكير في شراء المكتبة التي تحدد سعرها بقرابة مليون دولار.
وبعد مفاوضات عديدة، استطاع كامي إقناع صاحب المكتبة واشتراها.. ولأنه لم يكن يملك هذا المبلغ الضخم دفعة واحدة، فقد تم الاتفاق على تقسيط المبلغ على دفعات، ثقة من مالكها في أن “المستشرق” ستكون بيد أيد أمينة وعقل عاشق للفنون والثقافة. بعد ذلك بسنوات أهدى حسن كامي المكتبة لزوجته (السيدة نجوى) التي كان يحبها جداً ونقل ملكيتها إليها، ولكن وفاتها عام 2012 بعد سنوات من وفاة ابنهما الوحيد “شريف”، جعلته يستردها مرة أخرى إلى أن توفى في عام 2018 وحيدأً ودون ذرية أو أبناء
صراع وقضية رأي عام
بعد وفاة كامي، أعلن ورثته أنهم فوجئوا بمستشاره القانوني عمرو رمضان يقدم عقدًا ينص على ملكيته وزوجته لمكتبة المستشرق التراثية، وهو ما شكل صدمة للمقربين من “كامي” نظرًا لعلمهم بنيته في التبرع بالمكتبة لتصبح منصة ثقافية وفنية في وسط البلد، ورغبته في منحها اسم “مؤسسة نجوى كامي للثقافة والفنون والتراث”، نسبة لزوجته ورفيقة دربه. لتقرر شقيقته الوحيدة “نيجار” التقدم ببلاغ للنيابة العامة المصرية تتهم فيه “رمضان” بالاستيلاء على ممتلكات أخيها الراحل، متضمنةً المكتبة بمحتوياتها، والفيلا التي كان ينوي تحويلها إلى دار أيتام يتعلم فيها الأطفال الثقافة والفنون بأنواعها.. لتتحول المسألة إلى قضية رأي عام وتناولتها بالتفصيل البرامج الحوارية المصرية، واستضافت في استديوهاتها الأطراف المتنازعين على أمر المكتبة.
وخلال أحد اللقاءات التلفزيونية قال أيمن فرحات أحد موظفي المكتبة، إن الفنان الراحل حسن كامي رفض بيع “المستشرق”، حتى حين عرض عليه رجل أعمال أن يشتريها مقابل 17 مليون دولار، ولكنه رفض واكتفى بالجلوس في المكتبه كل يوم ويقول إن نجوي زوجته كانت تجلس بها كل يوم لذلك توجد روحها بها، وهو ما أكده المستشار خالد راشد، أحد المحامين السابقين لكامي، ليثور السؤال: كيف وافق الراحل حسن كامي إذًا على بيع مكتبة المستشرق كما يقول رمضان ويوضح عقده، بمليون جنيه مصري فقط؟
ومع أن قانون المحاماة المصري يحتم بألا يتدخل المحامي كطرف في مشروع تجاري، يجعله عرضة للشبهات، وحفاظًا على الثقة التي يمنحها الموكل إلى مستشاره القانوني.. إلا أن المحامي “رمضان” ذهب في حجته إلى أن الفنان الراحل كان يملك نسبة 1% فقط من المكتبة، وأنه كان يديرها حتى وفاته كتقدير أدبي من الملاك الفعليين ـ أي المحامي “رمضان” وزوجته ـ وذلك قبل وفاته بفترة طويلة، دون أن يفصح عن السبب الذي جعل ملكيته للمكتبة ولأملاك الراحل كامي بأكملها سرًا لم يُكشف عنه إلا بعد الوفاة فقط!..
مصير غامض
وبوفاة حسن كامي، وحصول إرثه الثقافي على اهتمام إعلامي كبير، أصدرت وزيرة الثقافة المصرية د. إيناس عبد الدايم، قرارًا بتشكيل لجنة معاينة لمكتبة المستشرق، لما تشكله محتوياتها من تراث ثقافي وتاريخي شديد الأهمية والتميز، وهو ما تزامن مع إصدار النائب العام قراره بإغلاق المكتبة حتى يُحل النزاع عليها.
ظلت المكتبة مغلقة لأكثر من شهرين من تقديم ورثة كامي بلاغهم ضد رمضان، وفي فبراير 2019، اُُفتتحت من جديد، بعد قرار النيابة بتمكين المحامي عمرو رمضان من “المستشرق” عقب الإطلاع على أدلة القضية.. ولسوء حظ رمضان فإنه توفي بعد أشهر من وفاة كامي.
في 4 أغسطس 2019، أصدرت وزارة الثقافة المصرية بيانًا تعلن فيه نجاحها في ضم 86 عنوانًا من مكتبة “المستشرق” إلى مؤسسة “دار الكتب”، تشتمل على كتب ومخطوطات ومطبوعات ولوحات نادرة، بعد مفاوضات استمرت 6 أشهر مع المحامي عمرو رمضان الذي نجح في إثبات ملكيته للمكتبة، أما الباقي فما زال متاحًا للبيع.
ولا يزال الصراع مشتعلاً على المكتبة من قبل منظمات عالمية ومتاحف ودور نشر وحتى رجال اعمال ، وحسب مسؤول المكتبة فرح يونان فانه المكتبة تحوي كتبا يتجاوز عمرها 500 عام، وأضاف أنها تحوي أيضا 600 لوحة للمستشرقين الذين جاؤوا إلى مصر والشرق الأوسط، والتي تتراوح أسعارها بين 8 و 18 ألف جنيه مصري للوحة الواحدة”.