القراءة الجديدة للإمام علي “ع”
الشيخ حسن الصفار
القراءة المألوفة في ساحتنا الدينية لشخصية الإمام علي (ع) تهتم بالبعد الكلامي العقدي، لإثبات إمامته وأحقيته بالخلافة، كما تتناول البعد التاريخي بالحديث عن سيرته الذاتية وفضائله.
وهي قراءة ورثناها من عصور سابقة ولازالت تهتم بها بعض الأوساط المذهبية. أما الدائرة الإسلامية والإنسانية الأوسع فلا ترى في هذه القراءة ما يفيدها في مواجهة هموم الحياة، وتحدياتها المعاصرة، ولا تجد فيها ما يواكب تطور الفكر والمعرفة الإنسانية.
لكن هناك من الباحثين من التفت إلى الأبعاد الأخرى في فكر الإمام علي (ع) وسيرته، فاكتشف فيها ما يدهش العقل من رؤى الحضارة، ومناهج المعرفة وأسس القيم الأخلاقية، ونظريات إدارة الحياة الاجتماعية.
وهذه هي القراءة الجديدة لشخصية الإمام علي (ع) التي نحتاجها في هذا العصر.
واكتفي هنا بذكر أنموذجين لهذه القراءة:
جورج جرداق
النموذج الأول: جورج جرداق/ أديب لبناني مسيحي (1913- 2014م) في كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، ويضم خمسة أجزاء، في أكثر من ألف صفحة، صدرت 1958م، وضم لها لاحقًا جزءًا سادسًا بعنوان: (روائع نهج البلاغة). إن عنوان الكتاب (صوت العدالة الإنسانية) مؤشر لهذه القراءة الجديدة، حيث تأخذ شخصية الإمام عنوانها الإنساني الذي يتجاوز الأديان والمذاهب والعصور، فهو صوت لأهمّ قيمة يتطلع إليها الإنسان.
يقول جرداق عن العدالة عند الإمام علي: «إنها في بنيانه الأخلاقي والأدبي أصل يتحد بأصول، وطبع لا يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليها، حتى لكأن هذه العدالة مادة ركّب منها بنيانه الجسماني نفسه في جملة ما ركّب منه، فإذا هي دم في دمه وروح في روحه… ليس غريبًا أن يكون علي أعدل الناس، بل الغريب ألَّا يكونه».
وكان عنوان الجزء الأول: علي وحقوق الإنسان، تناول فيه مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ليقرأ محتواها ومضامينها في كلام الإمام علي وسيرته، وأنه سبق عصره بقرون حيث تحدث عن مفاهيم حقوقية لم تتبلور في الفكر الإنساني إلا في هذا العصر.
يقول جورج جرداق: (للإمام علي بن أبي طالب في حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصول وآراء تمتد لها في الأرض جذور وتعلو لها فروع. أما العلوم الاجتماعية الحديثة فما كانت إلا لتؤيد معظم هذه الآراء وهذه الأصول).
وعن مفهوم الحرية عند الإمام علي يقول جرداق: «فلو استعرض المرء لفظة الحرية في ذلك العصر لما وجد لها مدلولها الواسع العام إلَّا في نهج الإمام علي، فإن كلمة الحرية ومشتقاتها جميعًا لم يكن لها من المدلول في عصر الإمام إلَّا ما يقوم منها في معارضة الرق، فالحرية ضد العبودية، والحر ضد العبد أو الرقيق… أما عند علي بن أبي طالب فالأمر غير ذلك، ومفهوم الحرية أوسع وأعم… وهذا ما نراه واضحًا كل الوضوح في دستور علي في الناس، فهو يعترف للأفراد بحقهم في الانتخاب والاعتزال، وفي القول والعمل، وفي العيش الكريم، ثم يساوي بينهم جميعًا في الحقوق والواجبات، ولا يجعل لهذه الحرية حدودا إلَّا إذا اقتضت مصلحة الجماعة مثل هذه الحدود».
وعنوان الجزء الثاني: بين علي والثورة الفرنسية: قارن فيه بين نصوص الإمام علي ومبادئ الثورة الفرنسية في إعلانها الصادر سنة 1789م.
ثم تحول إلى مقاربة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في أخريات النصف الأول من القرن العشرين، ليقرر أنه يصعب على المرء أن يجد اختلافًا بين المذهب العلوي وهذه الوثيقة الدولية من حيث الروح العامة، أما الفوارق في الفروع ثم في الصيغ فهي محتومة في نظره مع اختلاف الزمان، أما الأسس فليس من أساس في هذه الوثيقة إلَّا وتجد له مثيلًا في دستور ابن أبي طالب، بل تجد في دستوره ما يعلو ويزيد.
ويقول: أن الوثيقة الدولية لإعلان حقوق الإنسان وضعها ألوف المفكرين ينتمون لمعظم دول الأرض أو لها جميعا، فيما وضع الدستور العلوي عبقري واحد هو علي بن أبي طالب. وسبقهم جميعًا ببضعة عشر قرنًا.
والجزء الثالث عنوانه: علي وسقراط، اهتم فيه بالمقارنة والمقاربة بين نهج الإمام في الفلسفة وعلم النفس والأخلاق، وبين مدرسة الفيلسوف اليوناني سقراط، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وأحدث ثورة في الفلسفة حيث جعل محورها معرفة الإنسان نفسه، وإدراك بواعث تصرفاته وسلوكه، ولمدرسته عند الغربيين اعتبار كبير، فهو مؤسس علم الأخلاق في نظرهم.
ويبدو أن جرداق أراد ببحثه هذا إلفات نظر المفكرين الغربيين إلى ما قدمه مفكرو الشرق وفي طليعتهم الإمام علي من إسهام متميز في مسيرة الفكر الفلسفي الإنساني.
كما أنه يمثل رسالة للداخل الإسلامي ليقول لهم إن عليًا لا ينبغي أن يتحدث عنه في سياق الحديث عن مناوئيه كمعاوية وعمر بن العاص وطلحة والزبير، بل إن الحديث عنه يجب أن يكون ضمن سياق الحديث عن قمم الفكر الإنساني والمبدعين في عالم المعرفة وتطوير المجتمعات.
ويقول عن استهدافاته من هذا البحث: «إنا عمدنا إلى هذا الحديث عمدًا؛ لأن سقراط لم يعاصر عليًّا ولم يكن عربيًّا ولا مسلمًا أو مسيحيًّا! وما ذاك إلَّا لإظهار أمر لم نتعود بعد أن نتمرس به كثيرًا وهو أن الحقيقة واحدة، وأنها لا تدنو منا ولا تبعد عنا بمقاييس العصور والجنسيات والأديان، وعلى ذلك يكون سقراط العظيم أخًا لعلي العظيم بما يلفُّ كل عصر وكل جنسية وكل دين، ألا وهو الإنسانية المؤمنة بالإنسان المبدع، وقيم الحياة الثابتة، وخير الوجود الشامل… وإن عليًّا وسقراط وإن باعدت بينهما ظروف ومناسبات وأزمان، لتجمع بينهما آفاق الكاملين من أبناء آدم وحواء، أولئك الذين ما عملوا عملًا إلَّا رأينا فيه صورة الإنسان المتفوّق العظيم في كل أرض، وما قالوا قولًا إلَّا أصغينا فيه إلى ضمير الإنسان المتحد بعدالة الوجود وقيم الحياة».
الجزء الرابع عنوانه: علي وعصره: وفي حديثه عن الأحداث التي رافقت حياة الإمام علي (ع) قدم اجتهادات جديدة وتفسيرات تغاير النمط الذي درج عليه مؤرخوه حتى اليوم.
وعنوان الجزء الخامس: علي والقومية العربية: ويرى جورج جرداق ضرورة إغناء العروبة بالبعد الإنساني وربطها بالإمام علي كصيغة عالمية للشخصية العربية، ناقدًا عروبة النهج الأموي التي تتسم بالتعصب والاستبداد.
إشادة العلماء بالكتاب
كتب المرجع الديني السيد محسن الحكيم للمؤلف: لقد أعجبني هذا الكتاب كثيرًا، وأعجبني من جوانب كثيرة. وأهمّ هذه الجوانب وأدقّها في نظري جانب العدل والإنصاف فإنه الجانب الذي يطغى على جميع جوانب الكتاب.
وما يدريني، فلعلّ مؤلّفه تأثّر بصوت العدالة الإنسانية حين دراسته للإمام علي فطغى عليه هذا الروح الإنساني السامي.
وإني أكبر منكم المجهود وأنصح للجميع أن يدرسوا هذا الكتاب على ضوء العقل والفطرة ليسمعوا الحقيقة من (صوت العدالة الإنسانية) ويتأثّروا بروحه.
وكتب عنه الشيخ محمد جواد مغنية: «قرأت هذا السفر مرارًا كثيرة ولا أزال، فشعرت وأنا أقرؤه أني اكتشفت كنزًا فوق الكنوز مجتمعة، فلقد كتب السلف والخلف عن شخصية الإمام ولا يسعك إلَّا أن تقف موقف التواضع والإكبار مما كتبوا وألفوا، ولكن أين كل ما كتبه الأولون والآخرون بما فيهم عباس محمود العقاد وطه حسين مما كتبه الأديب اللبناني الشاب الأستاذ جرداق الذي يدهشك بسحر البيان، وقوة العلم، وعظمة الفن، حتى يستولي عليك ويسيطر على عقلك وشعورك فلا تعود تشعر إلَّا بالكاتب والكتاب… إن قلمي ليعجز عن وصف هذا الكتاب العظيم والسفر الخالد، كما يعجز عن بلوغ الثناء على مؤلفه كما يليق بفنه الأصيل، وعلمه الغزير، وفهمه العميق».
وعده الشيخ المطهري من أفضل الكتب التي كتبت في حق أمير المؤمنين (ع).
الدكتور صائب عريقات
النموذج الثاني: بحث الدكتور صائب عريقات الذي صدر بعنوان: (عناصر التفاوض بين علي وروجر فيشر).
ولد صائب عريقات في بلدة ابوديس بالقدس 1955م وتوفي في 2020م على أثر إصابته بفيروس كورونا (كوفيد-19).
وهو من الشخصيات السياسية الفلسطينية الرئيسة التي أمسكت بملف المفاوضات مع إسرائيل، وأصبح كبير المفاوضين، وأحد كبار الشخصيات اللامعة على الساحة الفلسطينية، وهو عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
كان رئيسًا لدائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها عام 2003 وشغل منصب كبير المفاوضين الفلسطينيين سنوات عديدة.
أصدرت الكتاب عمادة البحث العلمي في جامعة النجاح الوطنية عام 2014م.
كما أصدره المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية القطرية. وانعقدت ندوة في الدوحة للتعريف بالكتاب.
ويرجع اهتمام الدكتور عريقات بهذا الموضوع إلى مجال تخصصه في دراسته الجامعية وهو دراسات السلام التي نال فيها الدكتوراه من جامعة برادفورد البريطانية، كما أن حمله لملف المفاوضات الفلسطينية كان باعثًا لتعميق دراسته واهتمامه بموضوع التفاوض، والذي أصبح علمًا له مدارسه ونظرياته في الجامعات الغربية، وفي مراكز البحث وصناعة القرار السياسي. وتتمثل عصارة الفكر الغربي في كتاب روجر فيشر. وهو أستاذ جامعي أمريكي ومفكر غربي، له آراء ونظريات سياسية، ولد 1922م، وتوفي 2012م. ويمثل مدرسة هارفرد ذات الأثر المهم في التعريف بعلم المفاوضات وترسيخه.
وتتحدد عناصر التفاوض في هذه المدرسة في سبعة عناصر وهي:
1/ المصالح.
2/ الخيارات.
3/ الشرعية.
4/ العلاقة.
5/ الاتصال
6/ الالتزام.
7/ البدائل.
ويشير السيد عريقات إلى أنه بعد دراسته لهذه العناصر في بحوث الدكتور روجر فيشر، فكّر في الرجوع إلى التراث الإسلامي العربي باحثًا فيه عن رؤية وإضافة تفيده علميًا وتدعمه نفسيًا وروحيًا في إدارته للمفاوضات الصعبة الشاقة مع الطرف الإسرائيلي والقوى الدولية المساندة لإسرائيل، ووجد الدكتور عريقات ضالته في سيرة الإمام علي وكلماته الرصينة، التي رأى فيها إبداعًا وتطويرًا وإضافة مهمة عما هو متداول في الفكر السياسي الغربي، لقد وجد في نصوص كلمات الإمام علي إشارات واضحة لتلك العناصر السبعة، بل وإضافة عناصر أخرى جديدة.
واحتاج المؤلف سبع سنوات من البحث في سبيل اثبات نظريته التي ارتكزت على قاعدة أن الإمام علي سبق المدارس الغربية في نظرته إلى علم وفن التفاوض الذي يعتبر اليوم الركيزة الأولى في العلاقات الدولية.
الكتاب عبارة عن دراسة مقارنة بين عناصر التفاوض السبع التي حددها عالم المفاوضات الأمريكي روجر فيشر، وعناصر التفاوض عند الإمام علي (ع) التي أثبتها الدكتور عريقات.
وقد استعرض عريقات من كلمات الإمام علي ما يتناول هذه العناصر السبعة، أما العناصر التي يرى عريقات أن الإمام علي أضافها فهي:
1/ عنصر العلم والمعرفة.
2/ عنصر القيادة والمسؤولية.
3/ عنصر المتغيرات.
4/ عنصر الصبر والثبات.
5/ عنصر العدل.
يقول عريقات: (دائمًا ستكون الحاجة إلى المزيد حول سيدنا علي، فلو كتبنا كتابًا في كل دقيقة من ساعات وأيام وأشهر وسنين الزمن، لما أوفينا إمامنا وسيدنا وأميرنا علي حقه).
(هذا الإنسان العربي الذي حدد مفاهيم الدولة والعهود والمواثيق وقال للمظلوم والضعيف: إن قوته تكون بالتمسك بحقوقه وليس بالتنازل عنها. إنه أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب. لقد لجأت اليه والى اقواله وخطاباته ورسائله في كل يوم من أيام المفاوضات على اختلاف انواعها وتعددها.
كنت أقرأ وأكتب وأسأل وأجيب، لم أعتقد أنني سأنشر ذلك كله في كتاب في يوم من الأيام، فهذه المسائل كانت من خصوصياتي، ولكن إن كنت قد استفدت وتعلمت وفاوضت وصمدت وصبرت وتحملت وابتسمت وبكيت وصمت وصرخت وفوق كل هذا وذاك ثبت وثابرت ولم أهن وإن حزنت كل ذلك لأن هذا الإنسان العربي الذي ظلم، عرف معنى الظلم، شاهد الضعف فلم يهزمه، كان معي في كل خطوة من خطواتي وكل لحظة من لحظاتي، كان يقف ما بين عقلي ولساني، كان جسري في التواصل والتفاوض، في الأخذ والعطاء.
فعلى الرغم من كل الضعف العربي والانحطاط وعدم استخدام لغة المصالح والاحتلال والحروب الداخلية والانقسامات والانقلابات والانشقاقات، كان أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب معي، كان قوتي وعزتي وعلمي وفخري وصبري ونضالي ومقاومتي واستمراري وبقائي والهادي والممسك بيدي حتى القدس الشريف).
إننا بحاجة لتجديد قراءة علي في كل عصر، لنقتبس من سيرته وفكره ما يضيء لنا الطريق في حياتنا المعاصرة، ويلهمنا في مواجهة التحديات والمشاكل الجديدة.
إن هذا الكسب المعرفي والاستلهام الروحي النفسي الذي حققه الدكتور عريقات من سيرة الإمام علي ونهجه، يمكن لأي باحث منفتح العقل أن يجد مثله في مجال تخصصه واهتمامه من سيرة الإمام علي ونهجه.