حرب الغرائز والأهواء
هالة الشماسي
يقول تعالى في سورة الروم – الآية 29 “بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ”
دائماً ما كانَ اِتباع الأهواء ـ المذكورة في الآية ـ تهمةً توجه للمصلحين والمثقفين من قبل المتشددين ومدعي التزام الحدود الدينية والبعد عن الخضوع للأهواء البشرية والاستسلام لها على عكس غيرهم.
واعتقادهم المغلوط هذا ليس سوى بسبب شيوع معنى الهوى بين العامة على إنه الرغبات والميول الى الحرية والتحرر من الأغلال والقيود.
وعلى الرغم أن من الطبيعي أن يُنظر للهوى على أنه فقط غريزة الحرية، لأن الحرية غريزة قوية عند الإنسان وتجري في عروقه كما يجري الدم فيها، فالحرية غريزة أصيلة في الكائنات الحية وكل ما تطورت فصيلة الكائن الحي ازدادت غريزة الحرية في داخله.
لكن لا يمكن أن يُختزل معنى “الهوى” و “الأهواء” لدى البشر في غريزة الحرية فقط، لأن الانسان كائن متطور ومعقد أكثر من ذلك، وغرائزه وأهواؤه كثيرة.
فمعنى الهوى لغةً في اللغة العربية هو الميل.
والهوى من تعريفاته اصطلاحاً؛ ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع.
(تبعاً للعالم الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات).
وهذا التعريف يتشابه ـ أو يكاد يكون نفسه ـ مع التعريف الذي يٌُدّمه علماء النفس والاجتماع في تفسير مصطلح «الغريزة». وقد جاء التعريف في علم النفس لأول مرة في سبعينيات القرن التاسع عشر بواسطة فيلهلم فونت،حيث عُدّ السلوك المتكرر غريزيًا بحلول نهاية القرن التاسع عشر.
وفي عام 1932 أُوصي باستخدام «ميل» بدل كلمة غريزة حيث إن كلمة غريزة ملائمة أكثر لوصف سلوك الحيوان.
إذن هنا نعرف أن الهوى البشري ـ أو الميل ـ هو فعل متكرر لدى الإنسان لا يدخل فيه إشغال المنطق والتحليل العقلي، أي أن الفعل يحدث بأمر من اللاوعي بينما الوعي والعقل يكونان مغيبين.
والعقل يغيب ويسلّم الزمام خلال حالات كثيرة، منها ما تُصنف من الغرائز ومنها ما تُصنف عُقداً ومتلازمات.
نذكر منها بدايةً متلازمة الميتاثيزوفوبيا وهي الخوف الشديد من التغيير الذي قد يسبب حالة (شلل) وجمود في القدرة على التفكير.
وقد أثبت علم الأعصاب أن عدم اليقين يشبه الفشل في أدمغتنا، لهذا السبب يُفضل الكثير من الناس تجنب التغيير بسبب عدم الارتياح للمشاعر المرتبطة به، وعلى الرغم من أن من الطبيعي الشعور بالخوف من التغيير، فإن بعض الأشخاص يتعاملون معه كشيء خطير.
وهذا قد يكون مثل الذي يحدث مع بعض المجتمعات والمؤسسات وحتى الأفراد، مع رفض أي آراء جديدة أو حتى طرحها للتحليل والنقاش.
وأيضاً من الحالات التي تحدث مع التغييب العقلي هي متلازمة الغطرسة، وغالبًا ما تسبب هذه الغطرسة إلى فقد التواصل مع الواقع والمغالاة في تقدير كفاءات أو قدرات الشخص الخاصة، خصوصًا عندما يكون الشخص الذي يعاني هذه الحالة صاحب سلطة.
وحسب علم النفس فإن السلطة تغري دماغنا بتجاهل المعلومات الهامشية، وتقلل القدرة على رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخرين بدرجة كارثية.
ومن أهم الأعراض السريرية لمتلازمة الغطرسة؛ الازدراء الواضح للآخرين، وفقد الاتصال بالواقع.
وعرض ازدراء الآخرين نراه يتكرر كثيراً مع المتشددين الدينيين عندما يواجهون آراء ونظريات دينية جديدة.
وقد تتشابك أيضاً متلازمة الغطرسة مع الشوفينية الجماعية في كثير من الحالات، وذلك لأن الغطرسة أمام معتقدات ومبادئ معينة لا تحدث إلا إذا تبعتها مجموعة من الناس، لفترة طويلة من الزمن.
ففي علم النفس الاجتماعي، النرجسية الجماعية ـ أو الشوفينية ـ هي الميل إلى المبالغة في تقدير الصورة الإيجابية للمجموعة التي ينتمي إليها الفرد.
ومن ميزات النرجسية الجماعية التشابه العالي المفرط للآراء، والحب المتضخم من الفرد لمجموعته، مما يجعل تلك المجموعة تعمل ككيان نرجسي.
إن رغبة الأفراد في رؤية مجموعاتهم أفضل من المجموعات الأخرى يمكن أن تؤدي إلى التحيز بين المجموعات، والصراع الجماعي والتحامل.
وكثيراً ما نرى هذا التعصب في الأفراد المنتمين إلى جماعات أو أفكار وثقافات معينة عندنا خاصة لدى المتشددين من المتدينين.
فالمجموعة النرجسية أكثر حساسية تجاه النقد المتصور الذي قد تُظهره جماعات خارجية لها، وبالتالي تكون تلك المجموعات أكثر ميل للانتقام.
ومن أسباب تعصب هؤلاء الأفراد لمجموعاتهم هو التوق إلى الحصول على تقدير الذات الإيجابي من أعضاء المجموعة المنتمين إليها.
حيث إن النرجسية الجماعية هي نزعة دفاعية عن النفس لاستثمار الاستحقاق الذاتي غير المحقق للفرد من خلال اعتقاده بتفرد وعظمة المجموعة المنتمي إليها فتعطيه نظرة راضية عن نفسه.
وتعزز الجماعات هذا الشعور من قبل أفرادها المنتمين إليها والمتعصبين منهم من خلال استخدام سلوك المكافأة والتعزير الإيجابي.
وأيضاً من معززات السلوك الجماعي والتبعية للأغلبية في المجتمعات عقلية القطيع.
وعقلية القطيع أو سلوك القطيع هو مصطلح يطلق على سلوك الأشخاص في الجماعة عندما يقومون بالتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمون إليها دون كثير من التفكير أو التخطيط.
وهذا المصطلح في الأساس يطلق على تصرف الحيوانات في القطيع أو السرب، حيث يشترك البشر مع الحيوانات في هذا السلوك.
وكل هذه الميول البشرية من عُقد ومتلازمات وغرائز تسببت على مرّ العصور وفي كل مكان بالعالم في تشكيل المجتمعات وتكوين شرائحها.
فهناك من هو مصاب بمتلازمة الغطرسة، وهناك من يقف في صفه ويدعمه بكل قوته بسبب إصابته بمتلازمة النرجسية الجماعية. وهناك من يتبعهم بلا سبب سوى اِنقياده لغريزة القطيع أو بسبب شعوره بالخوف الشديد من التغيير (ميتاثيزوفوبيا).
وحتى بالنسبة للمرأة، فقد تخضع المرأة ـ وحتى تتعصب ـ لكثير من المعتقدات والقناعات القاسية والجائرة في حقها بسبب إصابتها بعقدة ستوكهولم.
وغالباً ما تتسبب هذه الميول والسلوكيات بتشبُّث البشر بكثير من المفاهيم والمعتقدات واستمرار الإيمان بها حتى لو أبطل العقل التحليلي والمنطق صحتها، مثل ما حدث مع غاليليو الذي حُوكم وأُتهم بالهرطقة بسبب اعتناقه لمبدأ دوران الأرض حول الشمس ودحضه لنظرية مركزية الأرض.
وعلى الرغم من تقديم غاليليو لكثير من الأدلة الرياضية والمنطقية التي تدعم صحة نظريته، إلا أن كل الميول التي ذكرتها سابقاً من غطرسة ونرجسية جماعية وتبعية القطيع تسببت بدوغمائية وجزمية فكرية حالت دون أن تقبل الكنيسة حينها بنظريته، ولا حتى مناقشة استدلالاته العلمية التي اتبعها.
وقصة غاليليو هذه قصة كثيراً ما تتكرر في كل زمن حيث تَحُول الميول والأهواء المغيبة للعقل الواعي دون تقبل النظريات الجديدة، حتى وإن دُعمت تلك النظريات بالمنطق الفكري أو التحليل الرياضي أو حتى العلم التجريبي.
وتبع مصير غاليليو الكثير من علماء المسلمين الذين كانوا علماء في الدين وفي الوقت نفسه علماء في الفلسفة والرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب وغيرها من العلوم.
مثل ابن رشد وابن باجه وابن طفيل وابن سينا والبيروني ولسان الدين بن الخطيب وابن حيان والفارابي وعباس ابن فرناس والكندي وأبو بكر الرازي وابن الهيثم وغيرهم.
وعلى الرغم من أن هؤلاء شأنهم شأن جميع العلماء في العالم فهم أصحاب وعي يقظ وعقول تحليلية رياضية فاعلة، لا تستطيع أن تسيطر عليها أهواء وميول اللاوعي الآنفة الذكر.
إلا أنهم في النهاية لاقوا مثل ما لاقاه غاليليو من تهم النفي والتكفير والتجريم والتسفيه من علومهم والتحقير منها، كونها ليست سوى نتيجة للإذعان لهوى وميول الشيطان في نظرهم.
وكما تُوجَّه تهمة الخضوع للهوى للعلماء فهي تُوجه أيضاً لكل التقدميين السالفين منهم والمعاصرين وذلك لكونهم يحملون الكثير من الآراء والأفكار التحررية والناقدة للآراء والمفاهيم القديمة.
حيث يُحكم على كل من يمتلك نظرة دينية ناقدة وفكراً متحرراً على أنه مُنقاد إلى أهوائه وميوله، وذلك بناءً على تأويل المفسرين لقول “اتبعوا أهواءهم” الوارد ذكره مرات عديدة في القرآن الكريم.
وذلك على الرغم من صعوبة أن يكون القرآن قصد بمن يتبع الهوى من يملكون عقولاً علمية لا يحكمها غير التحليل العقلي والمنطق ولا يعرف لها الهوى سبيل.
في حين يبرهن العلم على أن الدوغمائيين هم من يخضعون لثلة من الميول والأهواء التي تسببت بالسلوكيات والمواقف المتكررة لديهم في كل زمان وفي كل ثقافة.
موضوع رائع و ممتلئ الجوانب العلمية و الثقافية و هذا غير السلاسة الرائعة في الطرح ..
نشكر الكاتبة على موضوعها الثري جداً