[تعقيب] وقفة ثانية مع الماجد…غواية اللغة
زكي اليحيى
أظن أن محمد حسن علوان فيما لو قدر له أن يقرأ الماجد فسيدرك تماما ماذا يعني أن ينبهر الماجد بعمل إبداعي ما، إذ أن هذا الانبهار سيمسح أي خطيئة إبداعية سيقترفها علوان أو اقترفها في “قندسه” أو “سقف كفايته”. فكل من قرأ (مسند الرمل) و (كأنه هو) وما بينهما وما بعدهما – وما أدراك مما بعدهما! يدرك تماما أي شروط يحتاجها النص ليجاز من قبل هذا المشعوذ. والتذوق هنا لممارس مبدع يعرف تماما ما يعنيه الجمال والابداع بلا أي تطفل لمعالجات نقدية جادة أو غير جادة، مملة أو (مملة)!
فهنيئا لمحمد حسن علوان هذه الشهادة. فـ”الأدلة الدامغة على وقوع علوان في شرك الابداع” وصولا لـ “ولو قايضني علوان على أكثر من الشعر لما ترددت”، كانت مبالغة لم تخفف منها المآخذ التي لم تمرق بالطبع على الماجد، بل كانت شاخصة كاشفة عن قدرة عجيبة لرصد الإبداع والاحتفال به من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن لأي من الهفوات أن تتوارى بسبب بريق ما، الا ويتبعها شهاب راصد!
هذه المعادلة الصعبة والخيط الرفيع الذي يلعب عليه الماجد من رصد للإبداع وكشف لمناطق الضعف هي من أبرز ثيمات المراجعات التي يقوم بها. وهي مع باقي جمالياته الكثر جعلتنا ننتظر الحلقات في السلسلة الأولى وعلى مدار تسعة أسابيع بدون أدنى انخفاض في معدل التشويق والتعلق (Suspense). بالضبط ذكرتنا بذات التوتر الذي كان عليه الموسم السادس للعبة العروش!
هذا التشويق والإثارة فيه من الكوميديا ما يفتقده المشهد الثقافي المعبأ بالكآبة و (ثقل الدم). فلك أن تتخيل (Analogy) انتقال الماجد لجمهور ليفربول متأقلما مع “محمد صلاح” بعد “كل التجريف” الذي قام به بار توميو لتاريخ برشلونة من رونالدينو الى ميسي! أما التكوين الجيني فلا تنتظر إلا أن تطل عليك كل حين روح الشاعر المتأصلة في رؤية محمد الماجد:
“أنا أصدق الآن أن كثيراً من دماء الحقيقة التاريخية سنلمحها تنبع من شقوق ضاحكة في جدران الروايات”
المعادلة والموازنة كانتا واضحتين جداً في الحلقة الثامنة من السلسلة الأولى “”…سفينة عزازيل دمرت قارب فردقان “. فالإعجاب بعزازيل ونزع وردة (إيكو) منها قوبلت بمحاكمة شديدة تحطم فيها قارب “فردقان”. وبالصدفة والله بمحض الصدفة أن تستدعي ذاكرتي “عزازيل” وأنا في منتصف قراءتي لـ”موت صغير”! وهذه المصادفة كانت بسبب التشابه من حيث اللغة الجميلة الشعرية في الصفحات الأولى في كلتي الروايتين لتنتهي بلغة يومية أو أقل.
بل إن انبهار القارئ بجمال اللغة فيهما كان مصاحبا لحالة من الفضول والقلق والترقب للحظة الهبوط والتخفف من جماليات اللغة، لأنه لم يتعود من زيدان وعلوان ما كان يقومان به من استعراض للغة باستثناء بعض من صفحات علوان في رواياته السابقة والتي لا تعدو محاولات لشعرنة الكتابة بدون تحقيق رصيد شعري يعتد به.
فلعل اللغة كانت مصيدة الماجد، ربما. ولكن وإن صدق حدسي – وليسمح لي – هذه المصيدة لم تستطع الإحكام طويلا. إذ وكما توقعت خبت جذوة الشعر تدريجيا كلما تقدمت الصفحات وكما قال درويش:
تفشى النثر في الصلوات وانكسر النشيد!
طبعا هذا الهبوط إلى اللغة اليومية أو التذبذب بشكل عام ليس مختصا بـ”موت صغير” أو “عزازيل” بل هو متوقع جداً (في مجمل الإنتاج الروائي العربي) إذ يصعب على كاتب روائي أن يستمر وهجه اللغوي/الشعري إلى النهاية إلا إذا كان من أمثال جبرا ابراهيم جبرا أو من سنخ اللغة على حساب البناء (الدرامي فقط) كرجاء عالم! فالجود بالموجود. والمحافظة على رشاقة وكثافة اللغة تحتاج لياقة أشبه ما تكون بنَفَسْ السبّاح. علوان أثبت قدرته ولياقته ليأخذ هذا الوهج لمنتصف الشوط مقابل “عزازيل” التي بدت جماليات اللغة في البداية فقط.
وتفوق علوان ليس فقط بالمسافة التي قطعها محافظا على شرط اللغة، بل وحتى في طريقة الهبوط الى اللغة اليومية العادية – والتي جافا بها لغة السياق نوعا ما (“إنسدح” في صفحة ٤٥٣ وإن كانت عربية) – بحيث كان متدرجا سلسا لا تشعر به إلا لحظة ملامسة مدرج الهبوط وذلك ما افتقر إليه زيدان في عزازيل حيث كان إقلاعا رائعا أعقبه سقوط حر!
ولكن المستوى التي وصلت له اللغة في “موت صغير” في صفحاتها الأخيرة لا يختلف لا عن “عزازيل” ولا عن أكثر التجارب الروائية الصادرة حديثا. حيث يتسارع السرد بشكل لاهث ويبدأ الإيقاع وكأنه يهيئ للنهاية بشكل تنقطع فيها جماليات اللغة. وللإنصاف فهذا التذبذب أو الانحدار يكون واضحاً بسبب جمال اللغة في بدايات هذه الأعمال أو مثيلاتها وإلا فباقي الأعمال الروائية وأكثرها لا توجد بها ظاهرة الانحدار في اللغة لسبب جداً بسيط وهو أن لغتها من البداية سيئة!
لعلي هنا وعلى سبيل الاقتراح أن تكون إحدى حلقات هذه السلسلة مخصصة لـ”مسرى الغرانيق” والتي تجاوزت فيها أميمة الخميس المألوف من حيث اللغة على خلاف مستوى اللغة في “موت صغير” كما حققت شرط الاشتغال على مستوى المادة التاريخية بحيث لم تمسخها جماليات المعالجة الدرامية.