[تعقيب] وقفة ثالثة مع الماجد…بالأحرى مع علوان
زكي اليحيى
علوان لم يسلط الضوء على الجانب الشخصي اليومي لابن عربي كما يقرر البعض وإنما
خلق شخصية من إبداعه أسماها (محيي الدين بن عربي)
كما أقُحِمَتْ “عزازيل” في التوقف أمام لغة “موت صغير”، سيحاكم محمد حسن علوان كما حوكم يوسف زيدان على يد الماجد في الحلقة الثامنة من سلسلته الروائية الأولى المنشورة في صبرة. وذلك من البعد الأهم في الرواية (الشخوص). وما أدراك ما الشخوص! بعد أن استعرض الماجد وقوع الحافر على الحافر بين “فردقان” و “عزازيل” حيث كان عنوان الحلقة “…سفينة عزازيل دمرت قارب فردقان”، عرج على طريقة زيدان في تناول “شخصية” (الشيخ الرئيس). ولكن الكؤوس هذه المرة تكسرت بين زيدان وعلوان أيضا. فزيدان قدم الشيخ الرئيس مولعاً بالشراب والأغاني والقيان وعلوان جعل ابن عربي عاصرا لكروم فريدريك! وكما عالج الماجد هذا اللون الفاقع في بيوغرافيا ابن سينا، وهو يبحث عن “الحكمة المشرقية”، أشار بنفس الطريقة على علوان سائلا عن “وحدة الوجود ومراتب الفيض”.
البعض يرى أن هدف “موت صغير” هو تسليط الضوء على اليومي العادي في حياة شخصية صوفية كبيرة. وهذا مشروع، بل ومستحب. ولكن التخفف من الجوانب الصوفية بلغ مكاناً لم يعد فيه ابن عربي الا متطفلا على حلقات التصوف وليس هو (الشيخ الأكبر). والأنكى جعله منبهراً بكل من يقابل من أصحاب الكشوفات، بينما لم تأت الرواية حتى بالكشوفات المشهورة جداً لابن عربي كلقائه بالمهدي في فاس وانكشاف المحشر له! وحينما نقول إنها مشهورة لا يعني ثبوت أو إثبات هذه الحوادث وإنما التأكيد على التصاقها بشخصيته وتراثه وقبولها عند المتصوفة. (Character) بل وحتى عند غيرهم ممن يرون بأن الشخصية في الأصل هي (أسطورية) فلوازمها أحداث وقصص أسطورية أيضاً.
فعلى سبيل المثال يظهر ابن عربي في الحوار بينه وبين إسحق القوني صفحة 358 وكأنه هو المريد وإسحق هو الشيخ! لا عمر بن عربي – وكان في بداية الأربعين حسب الرواية أي قمة عطائه (وقت تأليف الفتوحات) – ولا خبرته وتجربته والحد الأدنى من تدينه تجعل هذا الحوار متسق. إذ لم يشر الكاتب لإسحق إلا كسياسي وكاتب للوزراء والولاة وإن كان قريبا من أجواء التصوف!
وتمادى الكاتب في التخفف من التصوف بمعناه النظري ليجعل نظرية الأوتاد وكأنها جواً اجتماعيا وليست من ركائز التصوف! فيجهد ابن عربي في معرفة الوتد ومن ثم لا يعرف القاريء ما الذي استفاده العارف أو القطب أو الشيخ من الوتد أو البدل! وما هي وظيفته أو ما أهميته وما الذي سوف يجري بينهما! وبنفس الغرابة لا يعرف القاريء إذا كان الوتد هو في منزلة أعلى أو أدنى. فإن كان أدنى فلا يمكن أنه يعلم مالا يعلمه الشيخ وإن كان أعلى فأي فضل لابن عربي أن يأخذ من أوتاده ومنهم شمس التبريزي وهو – أي ابن عربي – في كهولته! لعل ما نقله الكاتب هو الواقع في عالم التصوف، ولكن أغفل تسريب ذلك للقارئ.
يتصاعد الإيقاع والتشويش معا في جعل “نظام” وتده الثالث! فلا يستطع الزواج منها! والأكثر شيوعا في المصادر التاريخية (وإن لم يكن مؤكدا) هو زواجه منها. لكن النقطة الرئيسة هي أن القارئ أصلاً لا يعلم لماذا لايستطيع العارف الزواج من وتده! بكل بساطة لأن علوان لم يذكر ماهية الوتد. يتعقد الارباك وقت لقائه بنظام وهو في سن النضج، وقت تأليف الفتوحات. فكيف بالشيخ الأكبر وهو في عز نضجه (أي نهاية قوس الصعود بحسب المصطلح الصوفي) لم يستطع مجاراتها في حوار صفحة 350 حيث يتذاكى فيه كل طرف وكأنه حوار صبيان مراهقين أو أنصاف مثقفين!
وبالمقابل ما يذكره ابن عربي عن نفسه في مؤلفاته من كشوفات ولقاءات أحرى بأن يُذكر! بمعنى أن تبنى (الشخصية) على الأقل كما كتب (هو) عنها في الرسائل أو الفتوحات بكل ما لها من حمولة أسطورية من جهة وتمثل الحجر الأساس لكل ما أتى بعدها في عالم التصوف من جهة أخرى. أما أن تقدم (خمريات) المتصوفة وفقا لما جرى في مزرعة فريدريك، فأظن أن خللا أصاب “الماسحة الضوئية”. فإنزال (الخمريات) لـمنزلة (كأس نبيذ) في يد ابن عربي وتلذذه بنظام يناسب البعض بالتأكيد، بل يصب وبقوة في المعنى المستورد حديثا للتصوف والذي جعل موضوعه من عوامل نجاح انتشار الروايات والقصائد التي تتعرض له كـ “قواعد العشق”. ولكن هل هذه الصورة والفهم للتصور هو الموجود في رباعيات الخيام والمولوي وصولا للحبوبي؟!
أتوقع أن علوان بذل جهداً جباراً مقارنة بالبيئة الثقافية (إلا القليل من المهتمين) البعيدة عن جو التصوف بمعناه النظري ليقترب من فهم بعض مصطلحاته وتوظيفها بشكل ذكي رشيق جَنَّبَ نفسه الانزلاق في العمق والذي سوف يكلفه جهدا مضاعفا (نظرا لصعوبة مباني التصوف نفسه) حتماً. أو أنها ممكن أن تثقل أجواء الرواية. ولكنه تخفف من مفاهيم التصوف لحد أفقد هوية ابن عربي وهجها الصوفي وجعلها أقرب لشخصية عادية جداً، إلا أنها صادفت بعض المتصوفة الكبار وتأثرت بهم! وهذه النقطة أفقدت الرواية الكثير فنياً. فما بالك بالشخصية الرئيسة في الرواية؟! وهي أصلاً الشخصية الرئيسة في كل تاريخ التصوف. إذ بدا وبكل بساطة أن علوان بنى شخصية من إبداعه أسماها محيي الدين بن عربي!
تزامنَ صدور “موت صغير” و “الأصل” لدان براون، لذلك فالمقارنة لمن قرأ الروايتين تتم بشكل تلقائي. وبكل سهولة يتضح أن الكاتب العربي يعتمد فقط على مخزونه الثقافي (وذلك ليس عيبا إذ أن النص سيولد بعد اختمار وتعتق) ورجوعه للمادة الخام يكون بشكل طفيف وسطحي ثم يكون على جمال اللغة وسلاستها الدور الأهم لرسم ملامح الرواية وشخصياتها! وأقترح على الماجد مقاربة تجربة دان براون وذلك إذا كان يريد فعلا لمخيلته أن تتصور “بنائين خارقين كابن خلدون وبرحالة شغوفين مثل ابن بطوطة، وبمستشرقين…”. فأول ما يصدم القارئ في الروايات الغربية كـ “الأصل” هو (الاشتغال) بالضبط كما عبر عنه إدوارد سعيد “too much work”. لعل روايات دان براون لا تجذب النخب بالذات وإنها تستطيع تحقيق مبيعات عالية – مخالفة تماما لتعريف الحالة النخبوية. المضحك أن نفس هذه النخب احتفلت بشفرة دافينشي ظنا منها أنها ستظل في رف النخبة! لكن أظن أن الماجد لا يكترث بما يجاز ومالا يجاز (نخبويا).
برغم ما ذكر، لا أحد ينكر المتعة والتشويق في قراءة “موت صغير” والتي نقلت الماجد من الكامبنو الى الأنفيلد. فعلى طول صفحاتها إلا أنك لا تشعر بثقل العمل أو نوبات التململ؛ كأنك تستمع لأغنية طلال مداح (وعدك متى) حيث إن جمال اللحن وروح طلال حملت الأغنية لسنوات عدة بالرغم من بساطة النص (نخبويا على أقل تقدير)!.