ظلمات فنون السرقة
حسين أحمد بزبوز
هل يعقل أن يتحول القبح إلى فن؟! وأن تصبح الجريمة المنبوذة علماً، حرياً بأن يدرَس، وأن يدرَّس لعامة الناس؟!. طبعاً، لا شك أنك قد واجهت يوماً بعض من يمكن أن نسميهم سراقاً، فهم كثر في هذه الحياة، ولا ريب أنك قد سمعت – ومن منا لم يسمع – عن من يسمي سرقاته شطارة، وربما تتفق أن قبعات الجماهير كثيراً ما تُرفع لبعض هؤلاء السراق، أو لكثير منهم، جهلاً أو محاباةً وتملقاً وتقرباً.
وللأسف كثيراً ما غُطيت سرقات السراق – الشطار – بغطاءٍ قانونيٍ، أو قل كثيراً ما اختبأت سرقاتهم خلف جدار القانون، كي تمرر ليفلت المجرمون هنا بما سرقوا من عقاب القانون. فالمجرم – الشاطر – يجد له ثغرات قانونية تريحه وتسهل عليه سبل الكسب غير المشروع، فيهنأ قلبه بالإطمئنان، وجيبه بالمال الحرام. وذلك جزء من واقع هذه الحياة وتعقيداتها. وعندما يهنأ المجرم بالثغرات القانونية، تصبح السرقة فناً وشطارةً، وتكون تلك الجريمة المرتكبة القبيحة جميلة خادعة المظهر تتلألأ، بما إكتسبته على يدي السارق البارع من مظهرٍ قانوني مزيف، وهي في حقيقتها لازالت كما كانت بشعة قبيحة منكرة مدمرة، تختبيء خلف مبتكرات الحيل، وغطاء القانون الذي تجاوزته.
وهكذا يصبح المجرم فناناً، ويصبح الضحايا بلهاء أغبياء، لأن السرقات قد تمت بإحكام، وأصبحت قانونية “مئة بالمئة”، أو أصبحت بنكهة القانون. وكثيرٌ منا قد لا يعلم شيئاً عن تلك الحيل التي تختبيء السرقات خلفها، أو قل قد لا يعلم عن الكثير منها ما به يكون في مأمن، وقد يؤخذ الإنسان بثقته الزائدة، أو بطيبته المفرطة. وتلك الحيل واقعاً، منتشرة بين كثيرٍ من الناس، ولا حصر لها، لا بزمان ولا بمكان، وكلٌ يغش في فنه، إلا الأنقياء.
لذا، حري بنا أن ندرس ذلك الفن العجيب، الذي ابتكره السراق لتحقيق غاياتهم، ويجدر بنا أن نتمعن في تلك الحيل المبتكرة بدهاء، لاستنزاف جيوب الناس، ويحق لنا أن نطلب وأن نتمنى أن تدرَّس حيل المحتالين في مختلف المدارس والمعاهد والجامعات، وأن تنقل المعرفة بها لعامة الناس، رغبة في رفع مستويات الوعي، وحماية لعامة الناس من الإعتداء. لا رغبة بالطبع – وهو ما قد يقلقنا طبعاً – في توسع تلك الجرائم القذرة، ولا طمعاً بلا شك في انتشار صور تلك الشطارات المزعومة، المدعومة نصاً بالقانون المتجاوز بالحيلة، المدمرة للقانون ذاته، والتي ستنخر القانون حتماً في الجوهر، وتضر بالمصالح العامة كلها، كلما توسعت – لا قدر الله – أكثر فأكثر، لتأكل حتى العشب اليابس، وليس فقط الثمر الناضج والشجر والعشب الأخضر. فلا ريب أن الوعي دائماً ضرورة ملحة، لحياة أكثر سلامة وصحة وأكثر أمناً، مهما كانت هناك من تعقيدات أو آثار جانبية، لنشر هكذا صورة من صور الوعي. ولا شك أن هذا، يكشف لنا بلا شك، جانباً مهماً من جوانب تعقيدات هذه الحياة المتشابكة جداً بطبيعتها، التي قد يتشبه فيها بالنور الظلام خلسة، حين نطلب النور، لنخرج به من دواعيس الظلام الحالكة.
ومثلما يتلاعب بعض باعة الخضار باستمرار، بالسلع المعروضة على الجمهور في الأسواق، بتمويه صلاحية وجودة السلعة المعروضة للزبون بطرق مبتكرة، وكما يغش أيضاً بعض باعة الأسماك واللحوم دائماً بطرق مختلفة متنوعة، بحيث يمكننا أن نكتشف كل يوم في الأسواق المتنوعة أساليب غش جديدة غريبة، فكذلك ستجد في سوق العقود والعمل الواسعة وفي مختلف التعاملات المالية والعقود التجارية المتعددة، في المتاجر ومعارض بيع السيارات وعند مقاولي البناء ومقدمي الخدمات السياحية وفي محلات التموينات وعند مقدمي خدمات النقل وشحن الطرود والسلع … الخ، كثيراً من الحيل والألاعيب القبيحة المستترة المجهولة بالنسبة للكثيرين منا، التي يسهل أن تمرر وأن تنطلي على المستهلك أو الزبون أو المتعاقد، بحكم فارق الخبرة، وكذا فارق الإختصاص أيضاً، بين المستهلك أو الزبون أو المتعاقد من جهة، والتاجر أو مقدم الخدمة أو السلعة أو العمل من الجهة الأخرى.
فالخبرة تصقل مواهب التجار ومقدمي الأعمال والخدمات في كثير من المجالات، بينما من الطبيعي أن تكون الخبرات لدى الطرف المقابل محدودة، خصوصاً في بعض التعاملات التي لا يزاولها المستهلكون والزبائن عادة بكثرة، وإن كانت حساسة جداً ومهمة، كشراء سيارة أو التعاقد لشراء أو بناء منزل العمر مثلاً … الخ، فمثل تلك العقود والمعاملات لا تتكرر كثيراً عادة في حياة الفرد، لتصقل خبراته بشدة.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن كثيراً من التجار ومقدمي الأعمال والخدمات للمستهلكين، يحاولون إتباع حيل ظاهرة أو خفية للكسب، أو لزيادة ذلك الكسب، تساعد في السرقة والتلاعب بالزبون أو إضعافه، كالتهرب من العقود المكتوبة، أو إن لم يتم ذلك أو لم يمكن، أن يتم عوضاً عنه التعامل بعقود “لي الذراع” ما أمكن – وإن تم بصيغة منمقة لطيفة ملتوية، وهذا هو المطلوب -. وحال كثير من تلك العقود المتداولة في الأسواق باختصار، أنها تضع شروطاً تنتصر للطرف الأقوى، وتضعف الطرف الأضعف، وهو الزبون أو المستهلك طبعاً، إلا ما رحم الله.
وستجد مثلاً، أن من بيده فسخ العقد دون شروط جزائية عادة، هو التاجر – الطرف الأقوى -، أما فسخ العقد من طرف العميل أو الزبون أو المستهلك فسيخضع للعقوبات وللشروط الجزائية المحكمة، ولا غرابة في ذلك، فمن يملي الشروط هو غالباً التاجر طبعاً. وكذا أيضاً ستجد أن إعادة تقييم سعر السلعة بعد مدة زمنية محددة مرهون لمقدمي الخدمات والأعمال أو السلع، دون وجود ضابطة حماية أو إنصاف للطرف الآخر الأضعف.
أضف إلى ذلك كله أيضاً، أن التاجر يلعب أحياناً بورقة ثقة الزبون المفرطة به، والسمعة الإعلامية المزيفة له، والشهرة المعززة بالدعاية – التي لا تعبر عن واقع الحال، طبعاً -. كما قد يتلاعب أيضاً، بكمائن الوعود الشفهية غير المكتوبة، التي قد تبنى عليها، ثم يلي ذلك مراوغات وتذاكي وتنكر لكل ما هو شفهي، ثم إملاء شروط ومبالغ جديدة أو إضافية. وما يسهل هذه الحيلة أو تلك الحيل، أن من الصعب أحياناً تدوين كل التفاصيل المطلوبة في بعض العقود، أو قد يؤخذ الزبون حيناً على حين غرة، مع طول العقود وتعدد البنود وتساهل الزبون نفسه وعدم اتباعه سبيل الحذر، إضافة لكمين الثقة سالف الذكر، وهذا كله في النهاية قد تكون تبعاته خطيرة، حيث يمكن أن تكون النتيجة ضياع الحقوق الهامة. أضف إلى ذلك، أن العقود والإتفاقيات، قد تحتوي مصطلحات مبهمة ومجهولة بالنسبة للزبائن، تصبح معها متاهات العقود والتعاملات والتفاهمات مظلمة جداً.
وكل ما ذكر هنا، غيض من فيض، مما يجري أو قد يجري في “عالم الشطارة” – عالم السرقات السوداء، والتدليس التجاري -. فأصغر تاجر، قد يخبيء لك المفاجآت، فيخبيء الفاكهة التالفة الفاسدة أسفل الفاكهة الطازجة النظرة، وربما غلف السلعة ورفض الفتح والفحص كي لا تكتشف الحقائق المدفونة عمداً وتعمداً، وقل أشياء مشابهة عن تجارة الأسماك والدواجن واللحوم الحمراء، فهنا عالم واسع المساحات للشطارة، في أمور قد تكون تافهة أحياناً. وفي عالم البناء أيضاً، من ألفه إلى يائه، قصص وحكايات لحيل وتلاعبات، لا تكفيها المجلدات الضخمة، التي ستجد فيها بلا شك فواجع وطوام كبرى.
يقولون لو خليت لخربت، ولو خليت فعلاً لخربت، ولا شك أن هناك من يحترم الزبون، وهناك من يراعي الأمانة، وهناك الصادق الأمين المراقب لله، والتعامل مع هؤلاء الثقاة الأمناء سيجعل فكرة التعامل بالثقة فكرة مأمونة ظاهراً، لكن هناك حتماً من سيجعلك تكتشف أنها فكرة خطرة مجنونة، وربما كان الخائن للأمانة والثقة من المؤسسات أو التجار ذوي الأسماء اللامعة، وقد يمثلها من يعطون من طرف اللسان حلاوة، لكنهم يروغون منك كما يروغ الثعلب، إذا جد الجد وحان موعد الوفاء بتلك الوعود والعهود والإلتزامات غير المكتوبة، وهنا يكمن الخطر.
وهذا سيجعلك تضطر لأن تكون حذراً دائماً للغاية مع كل أحد، مهما تظاهر البعض باللطف والأمانة والسماحة، فتتوقع أن كل التعاملات التجارية والعقود العقارية والمعاملات المالية تخبيء خلفها فخاً وأفخاخاً، لتتجنب عنوان السرقات، لكنها في الحقيقة تريد أن تحقق تلك الغاية بكل فن ومهارة، لذا هنا لا بد من القول: “دعوا الطيبة المفرطة، بل دعوا حسن الظن، وكونوا دوماً على حذر، فعالمنا مليء بالأفخاخ والشراك المنصوبة، وإن لم يغشك التاجر، فقد يغشك من تحت التاجر، وإن لم تغش صراحة، فبالحيلة والمكر وبما يساعد على تجاوز القانون، وهنا لن يحميلك من غدر التاجر الفاجر، ومثل تلك المزالق، مثل الوعي وفهم طبيعة القانون وما تنص عليه وتقتضيه نصوصه وبنوده، وما سيكتب لصالحك في العقود الصريحة المكتملة الواضحة، ولن يحميك سوى ما يوثق بينك وبين التاجر، فالتاجر شاطر، وإذا كنت غافلاً أوجاهلاً أو متراخياً أو قليل الخبرة، وكان التاجر فاجراً، فقد تقع في الفخ، لاقدر الله”.
وهكذا على صعيد المعالجات، يكمن جزء من الحل كما قلنا على الصعيد الفردي، في تجاوز الثقة، ثم يمكننا إضافة عدة نقاط أخرى. ولا شك أن رفع مستوى الحذر وخفض دور الثقة بمفرده كعنصر من عناصر تفكيك المأزق والمخاطر، لن ينهي المشكلة، خصوصاً مع معرفتنا أن الأطراف في تلك المعاملات، حتماً ليست متماثلة الخبرة، ولا متماثلة في مستوى فرض مقدار القوة والسطوة، على تلك الإتفاقيات والعقود والمعاملات. وهنا مع وجود طرف قوي وآخر ضعيف، ووجود التفاوت الكبير من عدة جهات، ربما من الضروري جداً الخروج من الحلول الفردية، إلى الحلول التنظيمية الرسمية، المناسبة لحجم المشكلة، والملائمة للزمان والمكان، وذلك بتحويل ما أمكن من تعاملات اليوم المالية والتجارية، إلى وثائق إلكترونية مضبوطة مدروسة، تخضع لرقابة ومتابعة رسمية دائمة، لتحمي مختلف أطراف التعاقد، وإن تم ذلك برسوم رمزية، ومقابل مالي معقول. وإن كان هذا غير ممكن في كل العقود – كما قد نتوقع -، أو كان غير مجدٍ أن يعمم على جميعها، إلا أنه حتماً سيكون ضرورياً وعملياً في كثير من تلك المعاملات والتعاقدات والتبادلات المالية المعاصرة، كلما إرتفعت قيمتها المالية. وأعتقد أن برنامج أو مبادرة “إيجار” يمثل خطوة ضرورية صحيحة رائدة، تمت فعلاً على هذا الطريق، ليبقى تطويرها ونشرها وتعميمها قدر الإمكان صحياً وضرورياً، لسلامة الوطن والنظام والمجتمع.
إن مقولة “القانون لا يحمي المغفلين”، ستصبح سمجة وقبيحة جداً، إذا عرفنا أن من يريدها أن تعمم وتنتصر هم السراق أنفسهم، وإذا عرفنا أيضاً أن السرقات في عالم اليوم قد أصبحت “فناً” أو “شطارة” كما أسلفنا، وأضحت أكثر تعقيداً مما كانت عليه في الماضي، بحيث يحتاج الناس اليوم فعلاً، حاجة ماسة جداً، لحماية القانون وقبضة السلطة. لذا، فلن يكفيك كفردٍ أن تكون ذكياً ولا أن تصبح حذراً، ولا بد أن تتظافر جهود جبارة محكمة من قبل الجميع، للوقوف في وجوه السرقات، وتذاكيات السارقين … “لا نصرهم الله”.
– القطيف
Bazbooz2002@gmail.com