من القطيف إلى الرياض 4 أيام.. و 6 أخرى إلى المدينة ذاكرة الشاعر العوامي تستعيد ما حدث في حج سنة 1366
حرب لا تنتهي مع "التغريزات" والسائق ميكانيكي بالفطرة
ذكريات حاج صغير
عدنان السيد محمد العوامي
في الرياض
حطَّت القافلة في الرياض في الهَزيع الأول من الليل، وضُرِبت الخيام في الخلاء، بعيدًا عن واجهة السور الشرقية، قبالة (الدروازة)، ويقدر الحاج الصغير أن ذلك كان في الليلة الرابعة من مغادرة القافلة القطيف.
وهو يأسف أن لم يتبقَّ في باله من مشاهد تلك البلدة سوى ظلِّ باهتٍ لخطٍّ مستطيل من الغُبار الأبيض، تثيره أقدامُ الحجَّاج أثناء سيرهم في ذهابهم إلى البلدة وإيابهم منها، ومشهد سوق الحطب وأكياس الفحم المكدَّسة أمام دكاكينها، خارج السور، وفي العصر ذهب مع الذاهبين من الحجاج، إلى (المقيبرة) لملء القِرب من بئر يتذكَّر أنها كانت خارج نخل هناك إلى الغرب من السوق، ومياهها تحملها إليه ساقيةٌ مخترقةً جدار حائط من الطين.
بعد صلاة العصر شُغِّلت مضخَّة الديزل، وتدفَّق الماء، متدافعًا في الساقية، لكن لم يسمح لأحد بالاقتراب منه، لا حمَلَة القِرب، ولا قطعان الماشية والدواب حتى جاء و(نيت) الحكومة الأحمر، ومُلئت القِرب فحملها وانصرف.
بعد ملء القرب وعودتها إلى المخيم محمولة على أكتاف الرجال، قُوِّضت الخيام، وانطلقت السيارتان، باتجاه عفيف، لتحط في مرات، استعدادًا لمعركة الدزِّ واللز والتغريز في (نفود قنيفدة) و(نفود السر)، وبعد تلك المعركة المجهدة كانت الدوادمي خير محطة يستراح فيها.
لم يشاهد الحاج الصغير عرائش الحجارة في هذا الشطر من الرحلة، وحل محلها مشهد قرى وبلدات بيوتها من اللبن، وخشب الأثل.
بعد مغادرة الدوادمي عصرًا تعطلت إحدى السيارات في منبسط واسع تحيط الجبال في بعض جهاته، لا يذكر إن كانت السيارة العاطلة هي التي تقله وأبويه أم الأخرى، المهم أن الأوامر صدرت، بتقنين الماء، وفرض ملء (استكانة) لكل فرد حين يقتنع (الحملة دار) بأنه على شفا الهلاك.
ذهبت السيارة الأخرى إلى حيث لا يدري، ونصبت رافعة من ثلاثة أعمدة من الحديد، على السيارة المتعطلة، وفرش (طربال عريض) أمامها (1)، وانهمك (جن سليمان) الدرويل (سائق السيارة) والكلندر (مساعده)، في إنزال الماكنة، وتفكيكها، وفي صبيحة اليوم التالي عادت السيارة الأخرى بقطع الغيار، وقِرب الماء الإضافية، وفي العصر استأنفت القافلة الصغيرة رحلتها نحو المدية المنورة.
استئناف
بعد أن تم إصلاح السيارة المتعطلة انطلقت القافلة نحو الغرب، مجتازة شريطًا رمليًّا يسمى (نفود العريق)، وكالعادة استعيدت الصاجات، واستُنفرت زنود الرجال للدف والدفع.
بعد أن ألقت حرب التغاريز أوزارها، انطلقت القافلة. مستأنفة سيرها. كانت الأرض شددًا (جدَدًا) مستوية لا تندر فيها الحصباء، ولم تخل الطريق من حزون وتلال صخرية اضطرت القافلة لتسلُّق بعضها من حين لآخر، آخذة نحو الجنوب الغربي، وفي (الصويدرة) كانت استراحة لأداء الصلاة والغداء، وفي العصر استأنفت القافلة رحلتها في الاتجاه ذاته، فبلغت المدينة المنورة عصرًا.
في المدينة
يتذكر الحاج الصغير أنهم ـ بعد 6 أيام ـ ولجوا إلى المدينة المنورة من الزاوية الجنوبية الشرقية لسور المدينة، عبر بوابة مسقوفة ذكرته بدروازة (المُخطب)؛ المخرج الرئيس لسكة الحرية في القطيف، إلا أنها ليس بها دكك ولا دكاكين كدروازة (المخطب) (2).
حي النخاولة
في فريق (حي) بني حسين (النخاولة) جنوب شارع العوالي استقر بهم المقام، وما أن استقرت الأمتعة في الدور، حتى بادر الحاج لدائرة البرق والبريد لإرسال البرقيات لذويهم يطمئنونهم على سلامتهم. أحد الحجاج كان له تصور مخصوص عن البرقية، فأخذ فضلات الكماج والبقصم الذي اذَّخره من بقايا الفطور في الطريق، وصرها في صرة، وتبع رفاقه الذاهبين لإدارة البرق لكي يرسلها برقًا إلى بيته في القطيف.
في المدينة المنورة – اكتحلت عينا الحاج الصغير بمشهد البيوت المشيِدَة بالحجر والجص، ذات الأبواب، والنوافذ، وتتألف من دورين فأكثر، وبعضها لها طارمة (3) أو أكثر، وأراسي (بلكونات)، ومشربيات (شرفات)، وأهمُّ من هذا كله الخَلاص من نتن الماء، وزفر الحلا (4) والربيان اليابس، ووسخ الأبدان والثياب الغبر، فقد وجدوا الماء العذب الزلال، والغذاء الشهي، فتعرَّقوا اللحم، وتمززوا المرق المبهَّر، و(تمطَّقوا) بمصُّ الأصابع بعد طول جفاء، واستمرأت آذانهم نغم النداء على جحِّ (حبحب) المدينة الشهير بطيب مذاقه، ينادي عليه باعته المتجولون.
يتذكر من مشاهد المدينة الأسبلة (5)، المثبَّتة في الروازن (الكُوى)، في جدران المنازل على جانبي الزقاق القادم من ناحية البقيع مفضيًا إلى باب جبريل بالحرم النبوي الشريف.
أحْ جبة
ويتذكَّر، أيضًا، منظر أطفال سمع الحجاج يسمونهم (احجِبَة)، يتشبَّثون بالحجاج وينشودنهم أناشيدَ لم يفهم منها، إلا قولهم: يا سيدي، الله يحييكم، بيت مكة يوديكم، ومعها لازمة (اح جبة) يقفون عليها في ختام كل دور من أدوار الأنشودة، وكذلك منظر خدام الحرم الخصيان (الأغوات)، وقرَّابيات (أكواز) الماء على أكتاف السقائين المتجولين، ترنُّ بأيديهم طاسات النحاس بنغماتها العذبة، يدعون العطاش للتبرك ونبش المخابي (الجيوب).
مما لا يزال يتذكره؛ مشهد الحاجَّات المصريات بأجسامهن فائقة الضخامة، التي لم يشهد مثلها، كما لم يدرك علتها، خصوصًا بعد أن سافر بعدها إلى مصر في مستهل الستينيات الميلادية، (1962) فلم يلحظ في مصر وأريافها التي زارها – على نساء الكنانة – إلا الرشاقة، وخفة الظل والدم.
ولن ينسى أبدًا حمَام الحرم، الذي لا يشبه الحمَام الذي خلَّفه وراءه في بيته في بلدة التوبي، فهذا لم ير أثرًا لذرقه أو نجوه في الحرم النبوي على الإطلاق، مما يظهر بجلاء همة وإخلاص الأغوات، الموكلين بمهمة نظافة الحرم الشريف.
بعد إقامة عشرة أيام في المدينة المنورة اعتاد فيها على التردد بين المسجد النبوي والبقيع، والسوق، وزار المساجد المعتاد زيارتها، مسجد الغمامة، وقباء، والحمزة، ومسجد سلمان إلخ… عاد مشهد الرحال يذكر بقول الشيخ يوسف أبي ذئب رحمه الله:
عشية حنَّت للفراق رواحل
وهاجت لترحال الفريق خيام
وسرعان ما واجد نفسه فوق براميل الديزل من جديد.
—–
(1) طربال في اللغة: البناء العالي، أو قطعة من الجبل، وفي الاصطلاح المحلي: بساط سميك من القماش الخشن، تتخذ منه الخيام.
(2) دروازة المخطب: بوابة مسقوفة، ذات دِكك مستطيلة على جانبيها. تفضي إلى سكة الحرية، وسكة الحرية سوق مسقوفة أيضًا، تفصل بين بلدتي مياس والكويكب، وتتصل بساحة الجبلة. موقعها الحالي حدها الغربي يبدأ من مطحنة السماح، وينتهي بشاعر الملك عبد العزيز.
(3) الطارمة: بروز في الطابق الأول يخرج من البيت؛ كالبروز الذي يخرج من الدرج خارج البناء، وفي بعض النواحي كالحجاز تسمى: الطيرمة، وفي نجد والخليج تسمى: الطرمة، وهي عندهم: عبارة عن بناء بارز يبنى فوق باب الدار، وارتفاعها يعادل ارتفاع الدرج من الداخل المؤدِّي إلى المجلس، وهي مثلثة الشكل تقريبًا مع بروز خشب كقاعدة لها، وتغطَّى من الجانبين بالطين أو الفرش، وبها ثقوب بكل الاتجاهات ليستطيع من يقف مبرزًا رأسه من الداخل وعبر تلك الفتحة (الطرمة) أن يرى من يطرق الباب دون أن يراه، واشقتاق اسم (الطرمة) يأتي من الطرم بمعنى الخرس لكونها لا تنطق بمن فيها ومن اسمائها ايضًا (القوتالة) أو (المشربية)، ويزين بعضها بالجص من الخارج، وبعضها تصنع من الخشب المزخرف. انظر: جريدة الرياض، العدد: 13876، الأربعاء 25/5/1427هـ، وكلمات قضت، محمد بن ناصر العبودي، دارة الملك عبد العزيز، الرياض، 1423هـ، جـ1/682، والظاهر أن الاسم مأخوذ من الطُّرْمة، وهي النبرة وسط الشفة العليا، انظر: محيط المحيط، أو من “طارَم”، وتعني في الفارسية: سور خشبي يحيط بحديقة، منزل مبني من الخشب، وسطح المنزل، وسطح خشبي، وكوخ، وقبة، وسقف. انظر المعجم الذهبي.
(4) الزفرأو الذفر، أصله: النتن والصنان، وعند أهل القطيف: رائحة السمك. والحلا، أصله بفتح الأول: النبات اليابس، وأهل القطيف يكسرونه ويخصون به السمك المجفف الصغير، أما الكبير فهو العوال، وكلاهما فصيح.
(5) الأسبلة (كذا وجدتُها في المصادر، والقياس أن تجمع على سُبُل، جمع سبيل): أمكنة مخصصة للشرب؛ صهريج ونحوه، أو تجويف في جدار يُتَّخذ كحوض يوضع فيه الماء؛ ليكون في متناول المارة، وبعض هذه الأسبلة يفرد له مبنى مستقل، خصوصًا إذا كان خارج المدن، ولشدَّة عنايتهم بهذه السبل يزخرفونها، وينمِّقونها بأروع النقوش والزخارف المعمارية. انظر: الأسبلة، قطرات من ماء، ولمسات من جمال، أحمد عبد الجواد، مجلة العربي، الكويت، العدد: 561، أغسطس 2005، والأسبلة العثمانية، رأفت أحمد الخمساوي، منتدى العملات والطوابع العربي، موقع على الإنترنت.
تنويه: الصور وفّرها الكاتب نقلاً عن كتاب “مرآة الحرمين”، تأليف اللواء رفعت باشا.