[3 ـ 3] عبده خال وترويض كافكا
محمد الماجد
ولكيلا أوهم أحداً بأن مثال بارغاس يوسا فيما يتعلق بـ (الواقعية القذرة) كان ادّعاء فارغاً، سأقوم بإعادة الصياغة: عبده خال وفي رمية نرد عمياء جمع محمد شكري وكافكا على طاولة زهر واحدة، وهذا أشبه بزواج المحارم، الذي سيكون من الصعب على قارئ رواية محترف نعته بـــ “التسلية” أو تقديمه كوصفة لمن يعانون من أرق حاد، إنها جريمة مكتملة البناء، ولم يكن من الذكاء في شيء تحسس جسد الجريمة ومحاولة التأكد، ولكنني فعلت كما هي عادتي دون رويّة أو تفكير يمنعاني من السقوط فريسة للفضول.
“ترمي بشرر” تتكون من بئر عميقة من الطين والبيوت الآسنة اسمها (حي الحفرة)، و(قصر) يرقد على فوّهة تلك البئر متحفّزاً لاصطياد كل من يحاول الخروج منها، لا اسم لهذا القصر ولكني أحب أن أطلق عليه اسم (مستعمرة العقاب)، مستعمرة كافكا الشهيرة، كما أحب أن اشبّه (حي الحفرة) بــــ (حي عين قطيوط)، تطيّراً بسيرة محمد شكري في (الخبز الحافي)، وباختصار: إذا هبط قارئ الرواية إلى البئر فسيجد محمد شكري، وإذا صعد إلى القصر فسيجد كافكا، خليط من اللذة المحرمة والدم والرغبة في الانتقام، وإذا كان لهذا القارئ المتأرجح بينهما مثل بندول أن يتخيل، فعليه أن يتخيل حجم الخراب الذي كانت تحدثه أبطال هذه الرواية الحجازية كلما استطاع أحدهم خديعة عبده خال والهروب من بين سطور روايته إلى شارع التحلية أو أي صالة مناسبات أو سوق قريبة!.
أعود الآن إلى لغة عبده خال مرة أخرى، ببساطة لأنني أريد الهروب من أنفاق الرواية المعتمة، لأقول بأنه ومع السطور الأولى للرواية، وقبل أن يلاحظ القارىء ظهور آثار ترهل اللغة عليها، كانت سليقة السرد عالية وتنبئ بلغة تتمتع بخصوصية فريدة، ولكن مع مرور الوقت، واحتفاءً بــــ محمد شكري، وكافكا، ولافتات (الواقعية القذرة)، قرر خال أن ينحر بقرة لغته المقدسة مبكراً، فيما قام حسين الرديني وخالد بنان بتوزيعها بين الأحياء الشعبية والمؤسسات الثقافية، أما طارق فاضل فأولم بما تبقى منها ل تهاني وسميرة ومرام، بينما استغل سيد القصر ولعه بطاولات القمار فراهن بالعظام، ولأنها بقرة خال الوحيدة، جلسوا جميعاً ينظرون إلى عبده خال وهو يتسوّلهم إعادة ما تناهبوه منها ليستطيع إكمال الرواية، حيث لم يعد يمسك سوى بطيف البقرة في مخيلته، وحتى هذا الطيف بدأ يتبخر بينما لم تصل الرواية إلى منتصفها بعد، ولم يعد أمامه سوى أن يقنع نفسه بأن بقرته مازالت حيّة، فأكملَ الكتابة، والقارئ يعرف أن ما كان يمارسه خال منذ ذلك الحين وحتى نهاية الرواية ليس أكثر من خدعة.
أين اختفت بقرة خال؟
مازال الوقت يسمح لنا بالقول بأن عبده خال يعرف ولا شك بأن عالم اللغة مكون من هيولا سائلة ومحيط هائل من الجمل، ويعرف أيضاً بأن هذه الجمل مكونة من كلمات، وأن هذه الأخيرة تتوزع على حروف تشكل رغم أعدادها القليلة الأنْوِيَةَ القابلة دائماً للانفجار وإعطاء عالم اللغة قابليته الأبدية للتمدد، وما زال الوقت يسمح أيضاً للقول بأن الاستثمار في هذا العالم ليس مفتوحاً، ليس في سياقات الجمل وطريقة عمل الكلمات فقط، بل حتى في دلالاتها، وفقدان الكاتب، أي كاتب، للمعرفة الدقيقة بهذه الخاصية المحكومة للغة، سوف يحمله على تمزيقها، أو ذبح بقرتها الوحيدة على أعتاب السَرد، كما فعل خال، ليترك بقية فصول السّرد نهباً للجوع والفقر!.
لقد تبخرت لغة الرواية بسبب الاستغلال المبالغ فيه لمكوناتها التي بدت كثيرة وواعدة ثم تضاءلت مع الوقت، ولأبدأ من الجذور، جذور الأنْوِيَة، أعني الكلمات، وكيف أن الاستخدام المبالغ فيه و(الكاريكاتوري) لمفردة بعينها يمكن أن يفرّغ كل طاقة المجاز المخزونة فيها، الأمر الذي يؤدي بها لتفجير نفسها من الداخل، فتكف فجأة عن القول، وتنطفئ حتى لا تعود تشير أو تدل، وفي هذا السياق، لفتتني مفردتان، من بين مفردات كثيرة في الرواية، زودهما خال بخاصية التفجير الذاتي: (مضخة)، و(يقتعد) بكل اشتقاقاتها الممكنة (أقتعد، نقتعد، تقتعد …)، فقد استخدمهما بابتذال مخل، وفي ذات الحقول والسياقات اللغوية، فأفقد المفردتين قدرتهما على استزراع المزيد من الدلالات، لقد سلب خال منهما قدرتهما على الحياة.
وسط كل هذا الذي يبدو تمزّقاً ونزيفاً في اللغة، لا بد من التنويه بأن عبده خال، في المقابل، كان يملك شجاعة نادرة، وقدرة سافرة على المواجهة، ليس في كشفه لواقع المجتمعات والأقليات المهمشة فقط، وإنما في القدرة على فضح ممارسات(سيد القصر)، أوما نصطلح عليه دلالياً بأعطاب (المؤسسة)، ومن اليسير جداً العثور على أدلة لمثل هذا الادعاء من داخل الرواية، فالرواية كلها عبارة عن لائحة إتهام، والتي لا تعني سوى (لائحة اتهام)، ولكي لا أفسد على القارئ، سأترك له خيار الاطلاع على الأحكام الثقيلة التي تنطوي عليها اللائحة، وسأضرب مثلاً هنا للأحكام المخففة، وبإمكان القارىء نفسه أن يلاحظ كيف أن خال قام، وفي حركة خاطفة، بركل خاصرة المهندس محمد سعيد الفارسي (أمين جدة السابق) “لقد حول الفارسي جدة إلى قطعة سكّر، وأولم عليها، ومع تكاثر الذباب، كان البحر يجف، تسابق كل شيء نحو السقوط: مراسي الصيادين، وملاعبنا، وأماكن سباحتنا، كل المواقع كانت تهبط بسرعة فائقة إلى بئر الذكريات”.
في الخلاصة، يجب أن لا ننس شيئاً مهمّاً، وهو أن الرواية – بحكم التصنيف- لا تنطوي على أي حس فكاهي، أو حتى تلميحات لونية تخفف من سوداويتها، وهذا مصدر ازعاج بلا شك، بالإضافة إلى أن جرعة الكآبة الزائدة ربما جعلتها موضوعاً صالحاً للتندر، وبهذه المناسبة يمكن اسداء النصح لاتحاد الناشرين العرب باتباع ذات الخطوات التي اتخذها اتحاد الفيفا بحق الحادثة الشهيرة لأحمد شوبير وزملاؤه في المنتخب المصري، ففي كأس العالم 1990م جرت المباراة الأكثر مللاً في تاريخ كرة القدم بين مصر وايرلندا، وقد حصلت المباراة على هذه السمعة السيئة بسبب إصرار المصريين على عدم مغادرة نصف ملعبهم طيلة المباراة، حيث استغل لاعبوا الدفاع المصري عدم وجود قانون حينها يمنع من ارجاع الكرة للحارس، فظل أحمد شوبير حارس المنتخب المصري محتضناً للكرة طيلة التسعين دقيقة، وما كان ينقص شوبير فقط هو تقبيل الكرة وأخذها معه إلى الفندق، بعدها مباشرة أصدر الفيفا قانوناً يمنع ارجاع الكرة بالقدم لحارس المرمى.
بالمثل، يمكن لاتحاد الناشرين العرب أن يسنّ قانوناً، بذريعة الكآبة هذه المرة والملل معاً، يقوم فيه بتخيير دور النشر المعنية بنشر مثل هذا النوع من الروايات، بعدم طباعة أي رواية تنطوي على جرعة قاتلة من الكآبة، أو في الحد الأدنى وضع تنويه على غلاف الرواية: يُنصَح بقراءتها لمرة واحدة فقط.
اقرأ أيضاً