[2 ـ 3] أليف شَافَاك.. العشق، الأسفار، وحقيبة إستانبول

محمد الماجد

أثناء الطريق كانت عيني نهباً لفاترينات المحلات، والبنايات العالية، وللسلالم الحجرية بينهما، سلالم دؤوبة، راحت تتسلّق أكتاف (تقسيم) إلى حيث تتمدد ضواحي وأحياء سكنية حديثة وفاحشة الثراء، في الأثناء، كانت ضفتا طريق الاستقلال مشغولتين بأداء التحية الصباحية: لوحة من الموزاييك البشري لم تكن لتكتمل لولا صبايا (تقسيم) من التركيات اللواتي لم أعد لاستخراجهن من محافظ ذاكرتي إلا مع مطالع غزو الدراما التركية في الألفية الثالثة ممثلة في “حريم السلطان”، و”العشق الممنوع”، و”قيامة أرطغرل”، وغيرها من كتائب الأناضول الناعمة، حيث لم تعد قلاع محمد علي ولا مدافع إبراهيم باشا قادرة على العمل ولا التقدم أكثر في مستعمراتها القديمة، وفي السياق، كانت فتيات منظمتي “توده” و”خلق” الإيرانيتين، الهاربات للتو من صراعات الثورة الوليدة، يتخطرن بين المحلات مثل قطط شيرازية، يقمن بذلك في كسل وملل واضحين، فنعاس المدينة، نعاس المدينة بأكملها مازال يسكن أطرافهن اللينة.

الغرق هو ما كان ينتظرني في منطقة تقسيم، وللهرب من هذا المصير قررت عبور جسر البسفور إلى الضفة الآسيوية من المدينة، وهناك، بدأت أكتشف أن لاستانبول طبيعة مختلفة، وتضاريس قريبة من تلك التي لمجرة واقعة في مهبّ جيش وديع وحالم من النيازك، مجرة مقسومة ومشغولة بإعادة تعريف نفسها كواحدة من أجمل الصيغ الكوزموبوليتانية في العالم، وما جعلني على يقين من ظني الأخير هذا هو زيارتي لــــ “تلة العرائس”، الهضبة الآسيوية الأعلى والأجمل في المدينة، حيث مكّنتني من رؤية كامل ما يحدث في المجرة: الجزءان الأوروبي والآسيوي وهما يتنازعان ضفّتي البسفور، وجسر شهداء 15 يوليو، الجسر الوحيد وقتها، والذي كان مرشّحاً ليصبح واحداً من الجسور الأكثر هدوءً في العالم فيما لو قرر أن يعيش في مدينة أخرى مدجّنة ومروضة بما يكفي، دونما حاجة لقيامه بمهمة قارّية وثقيلة كالتي يحملها على كتفيه الآن، ودون أن يكون وسيطاً معتمداً لحلّ النزاعات المائية.

ولكن المهم حقّاً أنني رأيت جسد اسطنبول هذه المرة كما لم يره أحدٌ من قبل، سوى جاهان، الهندي الصغير بطل رواية أليف شافاك الأخرى “الفتى المتيم والمعلم”، وسوى روّاد تلّة العروس بالطبع، الفرق فقط هو أنني كنت أنظر إلى المدينة بعين طائر وليس على ظهر فيل كما كان جاهان يفعل، سردية حضارية ملهِمَة استانبول، تاريخ غطيس في قدر ضخمة من الجغرافيا النقية، أو هكذا على الأقل بدت في عيني، أما الصغير جاهان فما حدث له كان أقل من الاصطفاء بقليل، فقد هبطت عليه الفلسفة عندما رآها لأول مرة: “كيس دهنيّ مملوء بالمتناقضات … تتنكر لنفسها في كل خطوة، تقلّب مزاجها في كل حي، حريصة وغليظة القلب، في الوقت نفسه وافرة العطاء”، الأمر الذي سيجعل من المدينة مختبراً ثميناً وهدفاً ذهبيّاً للكثير من التجارب الروائية، فكيف بـــ أليف شافاك، وهي ابنة المدينة الأكثر معرفة بالرموز والدلالات التي من الممكن أن تمنحها مدينتها لأي عابر فضلاً عن كاتبة متمرسة وشغوفة مثلها.

ومع ذلك، يبقى كل ما بذلته حتى الآن من محاولة لبناء علاقة مّا بين هذه الرواية واستانبول، وكأنه ما زال بحاجة إلى جرعة إضافية من المبالغة لكي يبدو حقيقياً، فولاية ماساتشوستس التي تقطن فيها (إيلّا)، بطلة رواية (قواعد العشق الأربعون)، سأنظر لها وباستمرار على أنها الجانب الأوروبي من اسطنبول، أو لأختصر فأقول أنها تمثّل (الغرب)، فيما تمثّل مدينة قونية، موطن بطل الرواية الآخر جلال الدين الرومي، الجانب الآسيوي، أو لأختصر فأقول أنها تمثّل (الشرق)، بينما المراسلات بين إيلّا والمتصوف الأسكتلندي عزيز زاهارا، ستكون هي جسر البسفور الذي سيرسم طبيعة العلاقة بين كل ما هو غربي من جهة وكل ما هو شرقي من جهة ثانية، وقد حوّله الاثنان، أعني إيلّا وعزيز زاهارا، بصداقتهما ذات العاطفة المتصاعدة إلى حانة معلقة من الحديد السكران، وحولّا المياه من تحته إلى مترو نهري ملئ بمقطورات ورفوف من الشامبين الروحي، لذلك يحلو لي أن أدّعي مرة أخرى بأن اسطنبول هي نفسها (قواعد العشق الأربعون)، وأن أليف شافاك أحبّت أن تترجم مدينتها الأثيرة إلى رواية أو لأقل: إلى مفاهيم سائلة وقابلة للتسويق.

ربما صار بمقدوري الآن، وبعد هذه المقدمة التي لا تعدو كونها طبقاً تحضيريّاً من الأوراق الخضراء، أن أتحدث عن الطبق الرئيسي، عن الورق الأصفر للرواية، عن الأسطر والنقاط والفواصل، حيث كان مخططاً لـــ إيلّا، أن تعيش حياة رتيبة ومهددة بالانهيار مع زوج خائن، ولكن هذا لم يمنع الزوج، الذي لم يشعر حتى ذلك الحين أنها تعلم بخيانته، من أن يدبّر لها عملاً مع دار نشر ليشغل به وقتها، فتسند لها الدار قراءة بعض الروايات للكتابة عنها، ويصادف أن تكون أول رواية تُكَّلف بها تحمل اسم (تجديف عذب)، لكاتب مغمور اسمه عزيز زاهارا، حدث هذا في سنة 2008 م، فيما كان زمن الرواية هو القرن الثالث عشر، وموضوعها يحكي عن القصة الشهيرة للمتصوّف شمس التبريزي مع مولانا جلال الدين الرومي، ثمانمائة عام تفصل إيلّا عما كان يجري بين الرجلين في مدينة قونية التركية، ومثل هذا العدد من السنوات الضوئية كانت تفصل روحها القلقة عن روحهما المتوحدة بمصدر الوجود.

أشياء كثيرة أيضاً، ووثيقة الصلة بأحداث الرواية، يمكن الحديث عنها سوى ما يُذاع من أن سبب انقاذ إيلا من محنتها هي علاقتها المطردة مع عزيز زاهارا، أو حتى قواعد شمس الأربعون، وأنا لن أقدِم على أي حماقة تقول بخلاف هذا الاستنتاج البديهي، ولكن الشرارة الأولى لكل هذا التحول في الحقيقة، وهذا ما لا يسع مراقب أن يقفز عليه، جاءت من حوار إيلّا مع ابنتها جانيت، الصدمة الأولى جاءت من هناك، حتى قبل أن تبدأ إيلّا عملها مع دار النشر، أو ترسل برسالتها الأولى إلى المتصوف الأسكتلندي، حين أعلنت الابنة المنتمية إلى عائلة يهودية، وفي اجتماع من المقرر له أن يكون أسريّا وصريحاً، أن تتزوج من الشاب المسيحي سكوت، الإعلان الذي كان أشبه برمي عود ثقاب في تلّة من القش، ولنراقب فقط كلمات جانيت الحانقة بعد أن قابل الوالدان إعلانها برفض مبطّن: “هل السبب أن سكوت (ليس) يهوديّاً؟!”.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×