فريق الجبل سنة 59.. هجرة فلّاحي العوامية بعد الحريق الكبير بيوت العشيش احترقت في "البوارح".. ومقال في "اليمامة" طالب بفرقة إطفاء للقطيف
العوامية: ليلى الزاهر، ديسك صُبرة
في العدد رقم 205 من صحيفة “اليمامة” الصادر في 18 رجب 1379هـ (16/1/1960)؛ نشر المرحوم عبدالإله الخنيزي مقالاً حمل عنوان “صرخة القطيف“. ووصف الكاتب مقاله بأنه “خطاب مفتوح إلى وزارة الداخلية”. وهو مقال ثانٍ، بعد مقال نشره قبل 4 أشهر من ذلك التاريخ، وقدّم له بعبارة “خطاب مفتوح موجه إلى المسؤولين”.
خلاصة المقالين هي مطالبة بـ “إنشاء فرقة مطافي في مدينة القطيف، بعد أن تكررت حوادث الحرائق فيها وفي قراها التي تزيد على 30 قرية”. ولم تكن المطالبة عرَضية، بل متأثرة بحريقين كبيرين وقعا قبل أشهر من ذلك التاريخ “في كلّ من القطيف والعوامية، واستوليا على ما يقارب 50 منزلاً، بعضها مكون من سعف النخل الذي يسكنه الفقراء المعوزون”.
المرحوم الخنيزي؛ سرد توابع الحريقين الكبيرين، “وعلى إثر ذينك الحريقين تفرّق أصحابها في كل مكان”..
مقال المرحوم عبدالإله الخنيزي، من أرشيف الشاعر عدنان العوامي
حريق العوامية الذي أشار إليه الخنيزي هو ما يعرفه سكان العوامية بـ “حريق فريق الجبل” الذي هجّر عشرات العائلات من المكان، ولم يعد الحيّ مسكوناً من أكثر من 65 سنة حتى الآن. ومنذ ذلك التاريخ “الأرض قفراْ والمزارْ ابعيد”.. الفلاّحون الذين احترقت حتى ملابسهم في بيوتهم؛ نزحوا إلى أماكن قريبة من الديرة “المسوّرة”.. وبالذات ما كان يُعرف بـ “الفريق الشِّمْلي”، و “الفريق الغربي”. وفي ذلك التاريخ؛ كانت العوامية كلّها ملمومة في قلعة ذات أسوار وبوابات، تُحيط بها البساتين وبيوت الخوص، وضمن حدود لا تبتعد كثيراً عما أصبح اليوم “مشروع وسط العوامية”.
منظر جوي لفريق الجبل سنة 2016 (قوقل)
منظر جوي لفريق الجبل حالياً ـ 2022 (قوقل)
فريق الجبل
في ذلك الحيّ الواقع في الطرف الشمالي من قرية العوامية؛ كانت منازل “العشيش ـ الخوص” متجاورة متلاصقة، يجمع أهلها التلاحم الحميم في أشبه ما يكون بجزيرة سكان وسط بحر من النخيل. وعُرف المكان بـ “الجبل”؛ بسبب وجود مرتفع من الصخر الجيري وسطه تقريباً، وعلى طرف المرتفع يقع مسجد كان يجمع الفلّاحين العاملين في البساتين.
وحسب ذاكرة معتوق الستراوي المتقاعد من شركة أرامكو؛ فإن الجبل كانت تسكنه كثير من عائلات العوامية، مثل البنّاوي، والمسعود، وهويدي، وطرموخ، ومحيشي، وسريح، والمصلاب، ونجران الزاهر، واللبّاد، وغيرهم.
يضيف “تعود ملكيّة الأراضي، للدولة بينما النخيل والأراضي الزراعية مسجّلة كملك خاص بالأفراد”.
معتوق الستراوي
يضيف أيضاً “منازل أهل الجبل يبنيها المزارعون بأيديهم من مكوّنات النخيل، ويعتمدون على من يمتلك الخبرة”. والخبرة التي يُشير إليها الستراوي هي إتقان اختيار السعف المناسب والجذوع المناسبة، ثم شدّ السعف لتجهيز ما يُعرف بـ “الدفعات”، وهي جدران “العشة” الخوصية، ووضع جذع للسقف، ثم تُصفّ بين جانبيه السعفات متراصّة، ثم يُوضع على السقف ما يُعرف بـ “السمّة”، وهي بساط كبير مسفوف من الخوص الخشن”.
بهذا كلّه يحصل الفلاّح على منزل، و”سرعان ما يختفي مع أول حريق ينشب في موسم الصيف”، على حدّ كلام الستراوي.
المرتفع الصخري.. هو الجبل..!
إذا شفتها في جارك احسبْها في دارك..!
كانت حرائق الصيف، وبالذات مع مواسم السرايات والبوارح، خطراً يتهدّد قرى القطيف الريفية باستمرار. وحين يبدأ حريق في بيت “عشيش”؛ يُسارع السكان الآخرون إلى إخلاء منازلهم فوراً، لأن النار آتية آتية.. لا محالة. ومن هذه التجربة المريرة وُلد المثل الشعبي “إذا شفتها في جارك احسبْها في دارك”، يقصدون النار. ويُضرب المثل في أن المساويء مُعدية، لذلك خذ الحذر.
وحريق الجبل الكبير؛ بدأ صغيراً، ربما من شرارة في “خوصة”.. لكنه انتهى بتهجير الناس من المكان، وتغيّرت حياتهم إلى الأبد.
نخيل الفريق سنة 1985 (فيديو سعد الفرج)
يا اعْيال عوّام يا ارْفاق
أم علي.. واحدة ممن تأثرت حياة أهلها بحريق فريق الجبل، وهي تنقل عمّن روى لها القصة.. شرارة من “عشّة” جيرانهم، وما هي إلا لحظات حتى اشتعل المكان بأسره.. المشهد مفزع بمناظر هروب الأطفال والنساء، وألسنة اللهب تأكل المنزل تلو الآخر.. أما الرجال فقد تجمعوا من كل مكان تحت نداء “يا اعْيالْ عوّامْ يا ارْفاق”.. وهو الهتاف الذي كان سائداً بين الناس عند الفزعة الطارئة..
واجه الرجال النار، الماء من العين الارتوازية الواقعة غرب الحي.. لكنّ الرياح كانت أقوى، والنيران أقسى وأعتى.. اختفى الحيّ تماماً من المكان..
وتقول أم علي إنها شاهدت حرائق كثيرة، ولكن ما رُوي لها عن حريق فريق الجبل هو الأخطر والأقوى.. هناك حرائق في “أماكن متعددة، مثل الفريق الغربي وعلى امتداد المنطقة الشمالية وصولاً للمنطقة المقابلة لفريق كربلاء”.
وحين سألتها “صُبرة”: هل عاودتم بناء منازلكم من جديد؟
أجابت باعتداد “لم يعد أهلي إلى السكن في الجبل، نزحوا إلى منطقة “الديرة” بعد الحريق مباشرة، ثم توالت هجرة الناس بكثافة إلى الديرة والمنيرة والزارة نتيجة ظهور، وبعد ذلك بسنوات توفّرت أراض سكنيّة حكومية، ثم جاءت منح الأراضي المدعومة من صندوق التنمية العقاري، ونشأت أحياء جديدة في العوامية.
سعيد الزاهر
عفريت ادعيدع
وهذا ما أشار إليه سعيد الزاهر الذي يقول كانت النيران “تشتعل لساعات طويلة، ولا يتمكن الناس من السيطرة عليها بسهولة لشراستها، ولم تكن هناك فرق إطفاء، كما حال اليوم، ولله الحمد”.
يُضيف “كنا في فصل الصيف نذهب للسباحة في عين الجبل في وقت متأخر من الليل ولا نخشى شيئًا.. وكان الناس يخوفوننا بجنّي “إدْعَيدع”، ويقولون إنه يرمي المارة بالحجارة أو ثمار النخيل”.
ومن المنطقي أن تحيط بالمكان أحاديث الجنّ و “الرواعي”، خاصة بعد صار مهجوراً وموحشاً، لكن الزاهر لم يكن مقتنعاً بهذا الكلام، لأنه “غير منطقي”، كما يقول.
معتوق الستراوي قال، إيضاً، إن الطريق الممتد من الجبل مروراً بشمال العوامية وصولاً إلى الديرة لم يكن خالياً من المخاطر”.
فلاحون يتوضأون للصلاة في مسجد الفريق سنة 1985
الوضع تغيّر
استمرّ المكان مهجوراً بعد الحريق. وفي عام 1985م؛ صور هاوي التصوير سعد عبدالعزيز الفرج المكان، بمحيطه، ومسجده، وجبله. ويوثّق الفيديو وجود بساتين نخيل مهجورة أيضاً، كما يظهر فيها عدد من كبار السن يتوضأون من العين ثم يذهبون إلى الصلاة في المسجد. ومدة الفيديو 5 دقائق و43 ثانية، لكنها تكشف وضع الفريق وقتها.
شاهد الفيديو في نهاية الموضوع
التحولات لم تتوقف.. البساتين المحيطة بالحي تآكلت أيضاً، وحلّت محلها بعض المباني، والأرض التي كانت مليئة بأعشاب “الحيچ” و “القُصّيب” صارت تراباً عاطشاً أكثر. ونبع الماء الذي كان يصبّ في “جصّة” غربيّه لم يعد موجوداً.
أما المسجد؛ فقد أعيد بناؤه بالكامل، سنة 1431هـ، في شكل حديث ذي منارة، وتُقام فيه صلاة جماعة، ويرعى شؤونه الحاج سعود رضي محمد مدن منصور آل هزيم والحاج عبدالله علي السعيد. كما تُقام بعض الفعاليات الدينية تحت إشراف عائلة عبدالعزيز حسين آل تحيفة.
الشيء الوحيد الذي لم يتغيّر في المكان هو المرتفع الصخري.. الذي سمّاه الناس جبلاً..!
الحاج سعود هزيم
المرتفع الصخري والمسجد سنة 1985
المرتفع الصخري والمسجد.. حالياً 2022
ينبوع الماء.. لم يعد موجوداً
بأمر الملك سعود.. هيلي.. هيلي
الصحافي المتقاعد، عبدالله بن الملا علي الدبيسي؛ وُلد في “فريق الجبل”، وترعرع فيه أول طفولته.. ويتذكّر ـ حسب كلامه لـ “صُبرة” ـ الحرائق المتتالية في مواسم الصيف.. وهو يستبعد فكرة أن سكان الفريق هجروه بعد حريق سنة 1959م. ويُدلي بشهادة لها أهميتها من ذاكرته..
الدبيسي يؤكد أن الحرائق تسبّبت في نزوح كثيرين عن الفريق، لكنّ ما أخلى المكان تماماً؛ هو نشوء حي قريب منه، هو “حي الريف” الذي بيعت أراضيه بسعر لا يتجاوز 1500 ريال، في حين كانت أرض “فريق الجبل” حكومية..
وجد الناس فرصة في الانتقال والتملّك والبناء في “حي الريف”، أو تجهيز منازل من الخشب “صنادق” في بداية الأمر. ولذلك ـ يقول الدبيسي ـ إن أول سكان “حي الريف” هم سكان “فريق الجبل”.
ومن ذاكرته الطفولية يقول الدبيسي إنه شاهد بعينيه فلاّحي العوامية وهم يتعاونون من أجل مساعدة شركة في نقل حفّارة ضخمة، جيء بها عبر النخيل لحفر العين الارتوازية الوحيدة في المكان. يقول أتذكر الرجال وهم يستخدمون جذوع النخيل ـ كعجلات مدورة ـ أسفل الحفارة الضخمة.. وهم يرددون في صوت موحّد “هيلي.. هيلي”..
يضيف الدبيسي: حُفرت العين بأمر من الملك سعود وقتها، بطلب من المواطنين.
سعد الفرج.. وثّق وضع الحي قبل 37 سنة
موظف متقاعد من شركة أرامكو، مارس تصوير الفيديو هواية منذ شبابه الأول، ووثّق كثيراً من معالم بلدة العوامية، ومن بينها فريق الجبل. وفي الفيديو التالي 5 دقائق و43 ثانية، ترصد واقع المسجد بطرازه القطيفي القديم، والعين الارتوازية، ويظهر في الفيديو بعض شيّاب القرية وهم يتوضؤون من النبع.
وقد استفادت “صُبرة” من هذا الفيديو، وأخذت منه الصور المنشورة، بإذن من صاحب الفيديو الأصل.
شاهد الفيديو
https://youtu.be/CTStaz5ulag
شكر خاص: للأخ محمد آل هزيم، لتزويد الصحيفة بالصور الحديثة
صور منوعة لوضع الفريق سنة 1985 وحالياً.