واقعة كربلاء تكشف الأقنعة الاجتماعية المزيفة شبث بن ربعي مثالًا

 زكريا أبو سرير

تناول سماحة العلامة الخطيب البارز الشيخ فوزي آل سيف في محاضراته لشهر محرم الحرام التي ألقاها في مسجد الإمام المنتظر “ع” بحي (الحوامي) في تاروت في العشرة الثانية من موسم هذا العام الهجري ١٤٤٤، تناول مجموعة من الشخصيات المشاركة في ارتكاب جريمة قتل الإمام الحسين (عليه السلام) المستشهد عام ٦١ للهجرة من قبل الدولة الأموية التي كان يتزعمها حينها يزيد بن معاوية المشهور بين المسلمين كافة بالسمعة السيئة واستهتاره بالقيم والمبادئ الإسلامية بل والإنسانية.

وسماحة العلامة الشيخ فوزي آل سيف يكشف في البحوث العلمية التاريخية والدينية التي يلقيها على مسامعنا التاريخ الغامض وبالخصوص عن بعض من الشخصيات التاريخية المهمة، فضلًا عن تقديمه دراسة وافية عن طبيعية تلك المجتمعات وتحولاتها الفكرية والثقافية والدينية التي ساهمت وشاركت في تغير الهوية الاجتماعية والفكرية.

في التاسع عشر من شهر محرم من هذا العام (1444هـ)، في مسجد الإمام المنتظر (ع) قدَّم بحثًا تاريخيًّا تفصيليًّا في حدود ستين دقيقة عن الشخصية المثارة بين الباحثين والمتتبعين للسير التاريخية، وهي تعد من أبرز الفاعلين والمحرضين على قتل ابن بنت رسول الله (ص) وهو شبث بن ربعي بمحاضرة عنوانها: “شبث بن ربعي أرجوحة الولاءات”.

من عنوان المحاضرة يتبين أن هذه الشخصية التاريخية الخاسرة للدنيا والآخرة لم تكن على سياق واحد في مسيرة حياتها الطويلة والحافلة بالتحولات التي امتدت لما يقرب إلى تسعين سنة حسب تتبع ودراسة الباحث عن هذه الشخصية والتي تناولها بالتفصيل منذ نشأتها حتى فارقت الحياة الدنيا.

لا أريد هنا عرض ما قدَّمه أستاذنا الفاضل سماحة الشيخ السيف عن هذه الشخصية، بل أترك ذلك للباحث والمتتبع والمستمع لكي يكتشف بنفسه غموضها وأسرارها وجوانبها الحياتية، ولعل هناك جوانب أخرى لم أنتبه إليها أو أركز عليها في المحاضرة العميقة والدقيقة، وما يهمني من جانب هذه الشخصية المتقلبة أو كما أطلق عليها الباحث بالأرجوحة، والأرجوحة تعني هي تلك اللعبة الترفيهية التي يعشقها الأطفال (ونحن كذلك عندما كنا في مرحلة الطفولة كنا نعشقها ونحبها بل نتصارع لأجلها)، ويطلق عليها باللهجة الدارجة عندنا المرجيحة أو المرجحانة.

المرجيحة أو المرجحانة إحدى الألعاب الترفيهية المخصصة للأطفال في فترة الطفولة، وكانت واحدة من الألعاب التي عشقناها، وهذا في ظني لا يختلف عليه أحد، ولكن أن توصف بسلوك شخصية ما فهذا مدعاة للعجب والتعجب، وبما أن الأرجوحة تتميَّز بأنها لا تستقر على وتر معين، إذ تتمثل المتعة فيها بهذه الصورة، ولكن عندما يشبَّه بها على أنها سلوك اجتماعي فهنا الصورة والنظر إليها تتغير بل ينتاب الواحد منا منها شيء من الخوف والريبة والاشمئزاز، فإذا رُمي هذا الوصف بشخصية معينة فهذا يعني أنها غير مستقرة لا فكرًا ولا رأيًا ولا ثقافة، بل تشكل صعوبة في فهمها وبالتالي تشكل صعوبة في التعامل معها ولا تستطيع أن تعتمد عليها في أي شيء؛ بسبب تقلباتها الهوائية ومزاجيتها، وهذا النوع من الشخصيات الاجتماعية الذي يحمل هذه الصفة في الغالب يلفظ من الدوائر الاجتماعية مهما صنع من المجاملات السلوكية، وحينها تكون حساباته الدنيوية خاسرة فضلًا عن خسارته الأخروية.

السؤال الذي أريد مناقشته عبر دراسة هذه الشخصية التاريخية المتقلبة والنفعية والسوداوية (أي شبث بن ربعي) وهو يعد أحد أهم رموز قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)، هو: كم مثل هذه الشخصية الاجتماعية النتنة قد صادفت وتعايشت وتصادمت معها مع اختلاف طرق جرائمها الاجتماعية وربما الدينية؟

الجواب في ظني لا يبعد أن كل واحد منا صادف في حياته مثل هذا النوع من الشخصيات التي يتمثل فيها وصف الأرجوحة الباحثة عن النفعية الذاتية بكل الوسائل المباحة وغير المباحة والباحثة عن الأنا المذمومة اجتماعيًّا وإنسانيًّا ودينيًّا، ومهما كانت تشكِّل تلك الوسائل من خطورة ربما تقع على الفرد أو المجتمع فذلك ليس من ضمن حساباته الإنسانية، بل يعتبر تلك الطرق أو الوسائل المؤدية لتلك الأهداف الشخصية والنفعية الدنيوية شيئًا من اقتناص الفرص الدنيوية؛ لذا لا ترى هذه الشخصية مثل هذه الأمور الدينية أو الإنسانية حتى يجعلها تتراجع عن إرادتها أو رغبتها أو قرارها، وإن وصل الأمر إلى تدمير كل من يقف أمامها، فهي شخصية قد امتلأت بحب الأنا المذموم وأصبحت بغيضة بكل ما تحمل من معنى.

عند قراءتنا للتاريخ ولبعض الشخصيات التاريخية كنا نستغرب عندما نجد بعضها قد بلغت من العمر عتيًّا وهي مازالت طامعة متشبثة بالدنيا، مع علمها بقرب أجلها المحتوم بحسب العمر الافتراضي لكل إنسان، ولكن كما يقال: “إذا عميت البصيرة عمي البصر”، وهنا كذلك نرى التاريخ يعيد نفسه مع فارق الإنسان والزمان والمكان، ولكن الوسيلة والأهداف والأطماع واحدة.

شخصية مثل شبث بن ربعي الذي قارب على التسعين عامًا، أصبح كاشفًا للحقيقة وعارفًا أبعاد أفعاله الحاضرة والمستقبلية؛ لأنه لمس الحقيقة بكل وجدانه، إذ إنه عاش مدة طويلة من العمر، فهو أدرك رسول الله وما بعد رحيله (ص)، وعايش غالب الأحداث التي مرت على رسول الله أثناء البعثة النبوية الشريفة أولًا بأول، وعرف رسول الله وأهل بيته وخليفته، ومع كل ذلك كان يتقلب على بطنه تارة  وعلى يمينه أخرى وعلى شماله ثالثة ومكبًا على وجهه رابعة…، وهو على غير بصيرة، فأصبح أعمى لا يُدرك الحق ولا يبصر الطريق المستقيم؛ بسبب حبه الشديد لملذاته الدنيوية.

وهذا ما نجده بالفعل يتكرر في المجتمع أو الحياة مع بعض منا عبر احتكاكهم في مختلف الجوانب الحياتية، فنجد أشخاصًا عاشوا معنا دهرًا من الزمن وعرفونا حق المعرفة إلا أننا نجدهم فجأة وقد انقلبوا على أعقابهم عليك ورموك بما ليس فيك، ربما لأنك اختلفت معهم في رأي أو منهج أو مصلحة معينة.

وقد يكون من يتصف بشخصية شبث بن ربعي لا يشكو من مرض جسدي، بل قد يكون صحيح البدن والعقل من حيث الظاهر، ولكنه وبكل تأكيد مريض نفسيًّا وفكريًّا ودينيًّا، ويُخشى أن يكون أحدنا شبثًا بنَ ربعي ونحن لا نشعر؛ لهذا ينبغي مراجعة تصرفاتنا وسلوكنا وفكرنا بين الفينة والأخرى قبل فوات الأوان، وحتى لا نقع في فخ الشيطان، وذلك عبر الفلترة والغربلة والمحاسبة الروحية والدينية والفكرية المستمرة.

وهنا أتذكر مقولة للمفكر والكاتب الإيراني الدكتور علي شريعتي عندما تناول قراءة وتحليل أبرز الشخصيات الثلاثة والمهمة في واقعة كربلاء، فبدأ بالإمام الحسين (عليه السلام) الإمام الشرعي للمسلمين كافة، ويزيد بن معاوية رئيس الدولة غير الشرعي حسب الموازين الشرعية الإسلامية، وأخيرًا عبيد الله بن زياد المعروف أصله وفصله وشدة تعلقه وحبه للدنيا، فهو يعد المخطط والمحرض الأول لمحاولة اغتصاب المبايعة من الإمام الحسين (ع) لصالح يزيد بن معاوية لكي يستقر حكمه ودولته، أو قتل الإمام الحسين حال رفضه المبايعة ليزيد بن معاوية ولو كان الإمام الحسين متعلقًا بأستار الكعبة، وكان يمثل عبيد الله بن زياد حينها القائد العام لذلك الجيش الأموي الكبير الزاحف لمحاربة سبط رسول الله (ص)، حينها قال الدكتور علي شريعتي بعد تحليله لهذه الشخصيات الثلاثة: أخشى أن يكون أحدنا عبيدالله بن زياد ونحن لا نعلم!.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×