[1] حول سلسلة الماجد الروائية.. لا تحتاج إلى متطلبات
زكي اليحيى
(مشكلتي أنني لم أقرأ “داغستان بلدي” ولا أعرف رسول حمزتوف، فلم أتمكن من فهم إشارات الماجد)! وآخر يقول: (لعلي نسيت بعض تفاصيل “موت صغير” فليس لي أن أحكم على ما قاله الماجد)! وأنا أقول: ليس مهم! ما يقوم به الماجد، إن لم يكن تسويقا يستحق عليه حوافز من الروائيين الذين تناولهم فبالقليل قام باستخلاص أهم منحنيات الروايات المقروءة بإمتاع لا تحتاج فيه لأي متطلب سوى المخزون التراكمي للقارئ بشكل عام، وليس خصوص الرواية المعنية في المقالة.
أنا شخصيا، وعلى سبيل المثال، لم أقرأ كافكا! والمشكلة أنني الان لا أستطيع أن أكمل هذا الاعتراف بعدم قراءته، دون أن أسرح معها بتصور البعض، وابتسامة جانبية تشي بنشوة العثور على اعتراف، بنقص في رصيد الثقافة المستوردة. طبعا لو بدأت الفقرة بـ: لم أقرأ نجيب محفوظ، لكانت قنطرة عبور لعالم الحداثة!
كنت فقط سأقول إنني لم أقرأ كافكا ودائما أنسى أنه تشيكي، ولم أقرأ حتى “ترمي بشرر” على شهرتها من بين روايات عبده خال. ومع ذلك وَجَدَت مقالة الماجد “عبده خال وترويض كافكا” تفاعلا بين الأصدقاء وفتحت نقاشات امتدت لساعات وستأتي الإشارة اليها لاحقا. وفي الواقع ليست “ترمي بشرر” هي الوحيدة التي لم أقرأها من مؤلفات عبده خال، وذلك لسبب بسيط وهو ما قاله القصيبي: إن الإنسان الذي يستطيع أن يعذبك هذا العذاب كله، وأن يشقيك هذا الشقاء كله عبر رواية .. مجرد رواية ..لابد أن يكون روائيا موهوبا .. تحبه لموهبته، وتكرهه لأنه يذكرك بالمأساة الإنسـانية.
كتب القصيبي هذه الكلمات ونشرت على الغلاف الخلفي لرواية عبده خال “الموت يمر من هنا”. فشكرت القصيبي على هذا التنبيه طبعا، وأعدت الكتاب للرف وانقطعت علاقتي بعبده خال كروائي. طبعا ذلك بمعزل عن القيمة الأدبية لأعماله أو ما يمتلك من لغة. فقط لسبب شخصي جدا وهو أنني ليس لي جَلَد على القيام برحلة قراءة طويلة زوادتها الكآبة والبؤس والشقاء. القصيبي يرحمه الله وضع خلاصة لما اقترحه الماجد حين تهكم على دور النشر، مستفيدا من تجربة الفيفا ومشاعر شوبير تجاه الكرة!
ما أردت قوله إن هذه السلسلة لم تكتب كدراسات نقدية أو تعليقات مباشرة أو تسجيل ملاحظات على الرواية، بكل ما تحمله الكثير من هذه الأنماط الكتابية من ملل! بل هي طريقة خاصة لعرض الروايات بشكل يكشف عن حيل معينة تعين على قراءة العمل تارة أو جماليات لابد من الوقوف عندها أو مطبات وقع كاتب الرواية فيها. فهي تطل على عوالم هذه الروايات بشكل برزخي، فلا هي أحرقت الرواية بما هي تشويق وامتاع في الحبكة، ولا أنت محتاج لتكون قارئا لكل هذه الاعمال لتتمكن من متابعة السلسلة. والا فأدنى مستوى من الذكاء، لا يتوقع ان كل من يقرأ هذه المقالات كان قارئا لهذه الاعمال او ان يتوجب عليه قراءتها قبل قراءة المقال.
رواية “داغستان بلدي” – ويا للمصادفة – هي أيضا من هذا النوع من الكتابات؛ أي التي لا تحتاج لمتطلبات سابقة، لذا كان اختيارها لتكون ضمن حلقات السلسلة موفقا جدا. وإلا فمن أين لي أن أكون ملما بشعر أبي طالب أو أي من شعراء داغستان، بل وحتى شكل الحروف الآفارية! ومع ذلك ومع كل ما ينقصنا من ثقافة داغستانية استطاع رسول حمزتوف أن يدخلنا في بيوتهم وأن نتخيل سهرات أبي طالب بشاربيه وكيف كان يغني وبكفه (استكانة) شاي.
في “إنجيل داغستان” تظهر حيل الماجد في جعل هذه السلسلة وما قبلها روافع لتقديم رؤاه الخاصة في الفن أو الفكر أو على الأقل استثارة الجدل حول هذه القضايا. وبصراحة هذا هو الأهم، والذي يجعلني أصر على أنها – وبالرغم أن عمودها الفقري هو الروايات – إلا أنها لا تحتاج لقراءة هذه الروايات وان كنت لا أشك في أن من قرأ صدفة هذه الاعمال ستكون متعته مضاعفة.
جمع الماجد ين قضيتين لعلهما الأبرز في “إنجيل داغستان”. فأولا ما يختص بتاريخ اليسار بمعناه التنظيمي منذ البلاشفة الأوائل مرورا بتروتسكي بل وحتى علاقة هذه الايدولوجية بموضوع الحداثة وقصيدة النثر. والثانية هي محاكمة رسول حمزتوف كمثقف شهد تأميم شعر أبيه المكتوب باللغة العربية ولم يتجرأ على تحسس جيبه بعد أن قام الماجد بدس منشور برنارد شو في داخله. طبعا محاكمة رسول حمزتوف تأتي في السياق العام للسلسلة (الأولى والثانية) التي ظهرت فيها القضايا المتعلقة بمسؤولية المثقف وان كانت بشكل غير مباشر. غير أن في هذه السلسلة ظهر هذا الموضوع بشكل واضح. ولا حاجة لتوضيح أن المعني بالمحاكمة هو المثقف الزائف المتزلف النفعي وليس الحقيقي.
إضافة إلى الأبعاد الأخلاقية للمثقف، لم يغفل الماجد جنبة الاشتغال على المواد الخام وتنقيحها وتحري الدقة فيها وفرز الحقائق بدون الكسل الذي يبرر بانه “حبكة درامية وليس تحقيق تاريخي”. فالمسؤولية تجاه العمل الروائي تتضمن جميع الأبعاد وليس الجنبة الأخلاقية فقط، فنتذكر كأمثلة؛ ابن سينا عند يوسف زيدان أو ابن عربي عند محمد حسن علوان أو فوادح أليف شافاك التاريخية الثلاثة.
يتحسس الماجد مسألة المثقف بمجسات تخترق المؤلفين لتصل لأبطال الروايات كما في حلقات عبده خال والقائمة التي ضَّمنها الماجد عجوز ماركيز و كلود فرولو وصولا لمصطفى سعيد. وبالرغم من انتقادات الماجد العديدة والعنيفة لـ “ترمي بشرر”، الا أن المقالة تضمنت إطراءاً يتيماً لعبده خال يصب في نفس سياق المسؤولية الثقافية سواءً كانت تلك المسؤولية لأفراد أو مؤسسات حيث عبر عنه بـ “شجاعة نادرة…القدرة على فضح ممارسات سيد القصر”. ولعلنا نحاكم الماجد نفسه في قراءته لعبده خال في الحلقة القادمة!