[2 ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. أدلة أكثر صلادة على وجود الميتوكوندريا
محمد الماجد
فيما يتعلق بكلام يوسا حول النقلات الزمانية أو المكانية التي من الممكن أن تذهب بطمأنينة السرد وتضع يقينياته موضع الشك، وفيما يتعلق بهذه الرواية بالذات، وبما أن يوسا قد ضرب أمثلة أكثر تبسيطاً سنجدها في حانوته السّحري الصغير المسمّى (رسائل إلى روائي شاب)، والذي سبق وأن استعنا بخبرته، أقول ينبغي التنويه بأننا لا نتحدث عن قفزات نوعية كالتي ذكرها عن مثاله الخاص بالديالكتيك الهيجلي القائل “بأن التراكم الكمي يؤدي إلى قفزة نوعية”، وذكر مثالاً لذلك “… الماء الذي يتحول، عندما يغلي بالمطلق، إلى بخار، أو أنه يتحول، إذا ما برد كثيراً، إلى ثلج”، فهذه الرواية، وبالرغم من أنها مستعدة لتلبية رغبات يوسا، البسيطة والصعبة في آن، إلا أنها لم تخطط لإبرام صفقة مع هيجل، لذلك سنظل في النقطة التي تسبق مباشرة، تلك اللحظة التي منها سيبدأ الماء في التبخر أو تحوله إلى ثلج، لحظة دقيقة تلك التي اختارها الشويخات للتعبير عمّا يريد يوسا قوله بخصوص تغيير إحداثيات الواقع عبر نقلات زمكانية يختلط فيها الواقعي بالأسطوري، ولكن دون أن يقوم بثورة هيجلية غير محسوبة.
لنقترب أكثر من مقولات يوسا، فمن الواضح أن رجب سمعان، أحد أبطال الرواية، كان مؤيداً لها وبدون حدود، فقط لننصت له وهو يتحدث “الفن، كرؤية وسرد، هو الجذوة في صقيع الحياة، وهو الفعل الجميل ضد الخراب والخواء والوحدة”، وكرر “أنه ليس هناك بعد واحد محصور لأي حكاية، وأن ما يصنع السرد هو السياق والغرض والأسلوب” وأكد ديفيد بوكاشيو نظريات صديقه رجب سمعان ولكن بشكل مقلوب “أحياناً لم أستطع مغالبة الكتابة الفنتازية عن مدينة أوروك العراقية القديمة”، ذكر ديفيد ذلك في محاولة للتعافي من الارتدادات المعوية، والنفسية، لواقع مغامرته في العراق.
ولكي أبدي شيئاً من التبجيل والجديّة لما تفوّه به البطلان للتو، ولما أشارا إليه من مستويات من السرد الفانتازي جديرة بارباك الواقع وإعادة تشكيله من جديد، سأقول وباطمئنان، أن هذين التصريحين لن يسببا أي حرج لمقولات يوسا بارغاس، بل سيشكلان ذريعة له كي يضع عنوان “الأمريكي الذي قرأ جلجامش” إلى جانب عناوين روايات استثمرها لتمتين آراءه حول تقنية في الكتابة سمّاها (النقلات والقفزات النوعية)، وأعني بالتحديد روايات من أمثال (الفندق الأبيض) للكاتب د. م. توماس، أو (السيرتاو الكبير:دروب) للبرازيلي جواو غيمارايش روسا، أو (أورلاند) لفرجينيا وولف.
ولكيلا يبق الموضوع ضمن نطاق الادعاء والتنظير الأجوف، لعله من المناسب الآن الحديث عن النقلات التي قام بها الشويخات، ولكن، قبل ذلك، لأعتبر هذه الخطوة فرصة ذات فائدة فأستغل حديثي عن (النقلات) للعبور إلى الحديث عن أنطولوجيا الرواية بوصفها عالماً قائماً بذاته، فمهمة السرد في هذا العالم كانت من مسئولية عدة رواة: ديفيد بوكاشيو، رجب سمعان، ….، بينما احتفظ المؤلف بالدور الرئيسي لــــــ (راوي كلّي المعرفة، ومن خارج ما يُروى).
أقول هذا باختصار مخل، وإرضاء للواجب المدرسي، لأن عالم هذه الرواية، وفي الضفة الأخرى، وبالمعنى الوجودي لكلمة (عالم)، كانت تحمل طيلة الوقت سرّها الخاص بسبب ظهورها إلى الحياة، وما تنطوي عليه من دفاعات نفسية، وكذلك طريقتها في النمو والتطور، هذا السر عبّرَتْ عنه، وتحت غشاء من التوريات والاستعارات، مئات من الميتوكوندريا ذوات السمات اللغوية المتشابهة، وهي عضيّات تتمتع بطاقة لغوية متفجرة، احتفظت لنص الشويخات بحرارته على الدوام، ولكنها، وبذكاء من (الراوي كلي المعرفة)،كونه يأتي في المرتبة التي تلي (الخالق) في السلم الأنطولوجي للرواية، لم تجرح الغشاء الرقيق الذي يغطيها، ولو على سبيل المزاح، وإلا انهار هيكل الرواية على رؤوس الجميع.
أنا الآن أبعد من منتصف الرواية بقليل، وحتى يأتي الوقت الذي أجد فيه أدلة أكثر صلادة على وجود الميتوكوندريا، لن أتجرأ وأفصح عن اسمها ووظيفتها داخل الرواية، وسأكمل حديثي التفسيري عن (النقلات) لأقول بأن الأمر لم يكن يوماً أبسط مما هو عليه كما هو في هذه اللحظة: “في القرية”، “الذهاب إلى هناك”، “المعسكر”، هذه، وعلى التوالي، الثلاثة فصول الأولى من الرواية المكونة من عشرة فصول، ومن الواضح أن الحديث عنها لن يكون معجزة بأي حال من الأحوال، لأنها منهوبة ومستوطنة بالكامل للصحراء العراقية، حتى أصبحت تعيش على ما في هذه الصحراء مثل أي حيوان مجتر، كل شيء في هذه الفصول الثلاثة مرشح للفناء والموت: معارك، مداهمات منزلية، قتل، اعتقالات، اغتصاب، سحل، جنون. وإذا ما ظلت الرواية وفية لهذه النزعة التدميرية، فأقصى مرتبة من الممكن أن تصل إليها في التصنيف هي: رواية حرب، مهما بالغت في إضفاء طابع الحياة على جسدها فلن تفلح، لأنها ببساطة لا تملك أن تبث فيه الروح، خاصة وأنه أصبح حاضنة للنزاعات والحروب، بينما الروح مازالت تحاول أن تطرق بابه لإنقاذه ولكن بخجل.
أكثر من (نقلة) أسلوبية قام بها الشويخات لإنقاذ هذه الفصول الثلاثة من هيئتها التي تشبه هيئة الثكنات العسكرية، قبل أن ينهي تلك النقلات ب (انزال مظلّي) كان عبارة عن فصل رابع أسماه “أيام مضيئة”، بدى وكأنه انعطافة نهر متدفق في صحراء قاحلة، مزج فيه الشويخات التماعات ريشة رامبرانت اللونية بقدرة غوستاف فلوبير الخارقة في الوصف، في واحدة من أكثر انعطافات الرواية جرأة وروعة، وهذه الانعطافة وحدها تحتاج إلى تأمل طويل أخشى أن تأخذني بعيداً، لذلك أعود للعمل الشاق الذي قام به الشويخات لإنقاذ الثكنات الثلاث من مصيرها لأذكر ولو على شكل قائمة، أرجو أن لا تطول، سلسلة من الاستعارات التي استطاع الشويخات بواسطتها تحويل ليل المعسكر الأمريكي السادس، حيث ترقد هذه الثكنات الثلاث في قلق دائم، إلى صباح مدجج بالأناشيد، والشعر، والقصص، والرؤى، والموسيقى، والمنحوتات الوصفية، وحتى التراتيل والبشارات، ما ظهر منها على سطح الرواية، وما ظل غارقاً منها في القاع.
حسناً، لأضرب لكل واحدة مثالاً، وعلى الترتيب، بالطريقة ذاتها التي قامت بها الأم (المؤرخة) صوفيا بوكاشيو بتسمية تحف ومقتنيات آل بوكاشيو في ذيل “أيام مضيئة”، وبعلامات الترقيم والتنصيص نفسها:
فالشعر الذي ورد في الرواية، والأناشيد، والقصص، جاءت من استعارة الشويخات لملحمتي (الديكاميرون)، و(جلجامش)، ومن الشاعر الصيني لي باي، ومن سرديات الأم صوفيا واجتهاداتها التاريخية لتنقية سلالة آل بوكاشيو من ضغائن المؤرخين، أما الرؤى فجاءت من ظهورات شبح هنري بيكر المتكررة لديفيد بوكاشيو، الموسيقى جاءت من سيمفونية “شهرزاد” لنيقولاي ريمسكي، ومن أكثر من عرض قدمته أغنية كيني روجرز “لوسيل” على مسرح الرواية، وبشكل غير مرأي ستفور الموسيقى أيضاً من أوجاع الطين والسعف الذي يحتضن قرية (الباب) لتقطع على ريمسكي، وكيني روجرز، أي طريق محتملة للهروب، أمّا المنحوتات الوصفية فجاءت من براعة (الراوي الكلّي) الفنية، ووصفه (الانطباعي) السخي لمنزل آل بوكاشيو في سان فرانسسكو، وقبل ذلك وبعده، وصفه لمشهد الأم صوفيا وهي تحيك صوف التريكو على مقعدها الهزاز، فيما كان ابنها ديفيد بوكاشيو، هنا في الشرق الأوسط، يستنفذ كل طاقته البلاغية في وصف خوصات ثلاث نبعن من عتبة باب غرفته في المعسكر.
أما التراتيل، فهناك سلسلة منها، من النصوص المشغولة بخبرة وتأنِّ، هذه النصوص راحت تتكرر في أكثر من مناسبة سردية، وقد أملاها رجب سمعان على ديفيد بوكاشيو على هيئة (قواعد للحياة)، مستلهماً ربما طريقة شمس التبريزي في رواية (قواعد العشق الأربعون) لـــ أليف شافاك، أو نصائح ملكي صادق للراعي سانتياغو في رواية (الخيميائي) لـــــ باولو كويلو، وسأتجاوز، في سرعة، كل ما يمكن أن يمثل انعكاساً لظلال (قواعد) رجب سمعان على مرآة الرواية، لأذهب إلى الترتيلة الأهم، الترتيلة التي هبط بها طائر الشقراق ووضعها على زجاج غرفة ديفيد بوكاشيو في المعسكر، فقد تكررت مرتين بذات الألفاظ مع أول نزولين للطائر على ديفيد دون أن يلتفت، فبدا وكأنه، بعد سلسلة من الخسارات، قد خسر أيضاً فرصته الأخيرة ليكون نبيّاً، إلا إذا كان ثمة نزول ثالث للطائر قد يظهر فيما تبقى من صفحات هذه الرواية لينقذ الأمل الوحيد لسلالة آل بوكاشيو من الفناء.
وأخيراً البشارات، آه.. لا أعتقد أن أحداً سيخمن ما سأقول: البشارة الأولى كانت (رجب سمعان)، فلطالما اقتبس منه ديفيد بوكاشيو (قواعد الحياة) وكأنه يقتبس من قديس، الأمر الذي جعل قارئاً مغرما بالمخلّصين والأولياء مثلي ينتظر ظهوره في أي وقت، ولكن عندما رأيت بزوغه الهائل، ثم أفوله، وغرقه تحت تأثير النبيذ والديون في بحر المنامة، تبخّر إيماني، وصرت أمام ثلاث طرق: إما أن أعود لأبحث في أرض (الديكاميرون) عن كنوز لم يسع الرواية الحديث عنها، أو أن أعمل مع الأم صوفيا كأمين عام لصومعتها ومتحفها العائلي، أو أنتظر، وهذا ما لا أطيق سماعه، ما سيقوله نقاد عمل الشويخات حول التأويلات المحتملة للبشارة الثانية: طائر (الشقراق).