[3 ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش: الصورة مرة أخرى
عيد الناصر
دعونا نتوقف أمام صورة لحظائر صيد السمك على سواحل الخليج العربي، وتحديداً جزيرة تاروت حينما ذهب الصديقان إلى جزيرة تاروت لزيارة آثارها التاريخية العريقة: “تجاوزنا حظائر السمك المغروسة في طين البحر وقد ظهرت أطراف الجريد أعلى بقليل فوق سطح المد المرتفع. وبدت أذرعة الحظائر سوداء طويلة مفرودة في زرقة البحر الفاتحة”. ص 218، وهي صورة توثيقية مهمة لمرحلة تاريخية من حياة أهالي المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية لم تعد موجودة في هذه المرحلة، والجيل الجديد لا يعرف عنها شيئاً بتاتاً، جيل اليوم لا يعرف أن الذهاب إلى تاروت كان يتم باستخدام القوارب الصغيرة (مثل الذهاب إلى البحرين)، لأن الشوارع والجسور الآن قد ربطت بين تاروت والقطيف…
وصورة توثيقية لمكان آخر، وهو فندق في البحرين على شاطئ الخليج العربي أيضاً كان يقصده رجب وصديقه في بداية صداقتهما: “الشرفة أو التراس واسعة لا يفصلها عن البحر سوى فرشة بعرض أمتار من الحصى الصغير على طول واجهة الفندق البحرية. فرشة الحصى الأبيض (الزلط) تنتهي إلى صف من الأعمدة الخشبية القصيرة عليها حبل ممتد غليظ. من فرشة الحصى تهبط عتبات الى الشاطئ الخاص بالفندق. الشاطيء ينحدر برمله الأبيض الناعم بسلاسة إلى البحر..” ص 223
وهناك مجموعة من الصور توثق البيئة الريفية، بيئة المزارع التي تتألق فيها أشجار النخيل وترعى في حقولها الماعز والبقر، وتطير في أكنافها الطيور بأشكالها المختلفة، على صفحة 13 نقرأ هذه الصورة اللطيفة: “لم يكن هناك سوى عدد من الماعز يضرب بأظلافه تراب الطرقات الهادئة مثيراً هبات ضئيلة من الغبار، وقد توقف بعضه غير مبال، يلوك ما ينزعه من جذوع النخيلات المتفرقة بين البيوت”، استوقفتني عبارة “يضرب بأظلافه ..” صورة تعطي طراوة للمشهد وحساً شفافاً وحقيقياً وواقعياً ومصداقية عالية، صورة تبعث على الحنين لمرحلة من الزمن صارت من الماضي في بلادنا.
وصورة أخرى لا تقل شفافية وجمالا: “خمس عشش، ربما تكون مخازن للمحاصيل. هناك بغل أو حصان، ومعزتان. دجاج يسرح أمام العشش. في النهر قاربان مربوطان بالحبال إلى دعائم خشبية مغروسة في الضفة.” ص 2 وهي صورة نشم فيها رائحة الريف العراقي بشكل شفاف وجميل.
والأكثر روعة هذه الصور التي تمسك النفس بين الحزن والفرح: “.. بين جذاذات السعف المحترق المتناثر على الأرض كانت بعض المعزى مادة أعناقها الطويلة شاخصة العيون، لا تزال، وقد اخترقت شظايا القذائف أجسادها، وعلى مقربة من جثث الماعز، عند باب خشبي طارت إحدى درفتيه، كانت هناك على التراب بركة من الدم تسبح فيها جثة الطفل الذي فر هارباً من الماعز، وركض طلباً للنجاة. صفحة 55 /56 هذه الصورة التي لابد وأن تدفع إلى التعاطف مع الطفل الضحية، ومن ثم مع قضية الشعب العراقي.
وبكل تأكيد، بالنسبة لي، تأسرني الصورة التي تتسيدها النخلة العربية، فهي تحمل كل دلالات الشموخ والصمود تعبيراً عن الأرض التي تمثلها: “تسطع أعالي بساتين النخيل التي كانت تتقدم بكثافة. يسترعي اهتمام ديفيد على وجه الخصوص عذوق الرطب المكتنزة في هامات النخيل التي برزت منها سعفات مليئة بالخوص الغارق في درجات الأخضر البارق والداكن. كانت السعفات بخوصها الكث تنحني قليلاً في أقواس طويلة نحو الأرض وتتوالى في أعماق البساتين”. ص 246،
حين أقرأ “عذوق الرطب المكتنزة ..” أتذكر شطراً في إحدى قصائد الماغوط وهو يتحدث عن نهود المرأة العربية المترهلة لكثرة إرضاعها للأطفال.. وفي هذه الصورة الفوقية، من الطائرة، تدخل تنويعات أخرى على المشهد الطبوغرافي للأرض العراقية التي تدور عليها رحى المعارك القاتلة: “في المساحة المفتوحة، يرى تلالاً من السماد، وركام أكواخ صغيرة من الكرب والسعف المهمل، وعلى مقربة من حافة الطريق نثار من الرطب سقط من العذوق واندس بعضه في التراب. في الجهة المقابلة، إلى يسار الطريق ثمت مزارع مفتوحة تمتد مزارع مفتوحة من البرسيم والدخن مع صفوف الأسل وأشجار الطلح والأثل، المروحيات تمشط المساحة” ص 263
المجموعة التالية هي لفئة من الصور تعبر عن مواقف إنسانية لما تحمله من عواطف صادقة لأناس لا نحمّلهم إثم العدوان مثل صور الأم صوفيا بوكاشيو: “في التسعينات من عمرها ذاهلة عما حولها برأس مائل وحنك سفلي هابط، عينين زائغتين وذراعين مسبلتين على عظام فخذيها، وتهتز مع اهتزاز عجلتي المقعد”. ص 80 أو صورتها وهي مرماة على الأرض:” ..كانت الأم صوفيا ملقاة على الأرض كقطعة خشب بعينين جامدتين وشعر أبيض منكوش وإبر التريكو ناشبة في المنسوجة التي سقطت معها. كانت خطوط التجاعيد الرفيعة التي ملأت وجهها كشبكة من خطوط قلم الرصاص قد تحولت الى خطوط داكنة في رقعة جلد متغضن أصفر”. ص 295
وهناك فئة من الصور تعكس موقفاً طبقياً أو وظيفياً، فهذه الصورة تعكس وضعاً طبقياً لآل بوكاشيو: “يرفع رأسه ويرى على الجدار منسوجة صوفية فاتحة وقد طرز عليها صليب بخيوط سوداء تحيط بها من الحواف خيوط ذهبية مشعة. أعلى المنسوجة ثلاثة صفوف من الصور الكبيرة في إطارات معدنية مزخرفة بزخارف نباتية مهيبة”. ص 168 وكذلك هذه الصورة: “كان العم يمسك بملف في يده اليمنى بينما أعطى يده اليسرى لتتأبطها السيدة مارغريت وقد بدت في لباس زاه محتشم بعقد من الألماس على جيدها وأقراط بارقة في أذنيها”. صفحة 175
أما الصورة الأخيرة هنا فهي صورة لاجتماعات الرتب العسكرية في الجيش الأمريكي: “في قاعة الإجتماعات، جلس الجنرال نيلسون- محفوفاً بمساعديه- عند رأس طاولة مستطيلة ووراءه الراية الأمريكية على سارية فضية لامعة تنتصب على منصفة مفروشة بنجيل اصطناعي. وأمامه جلس صف من قيادة المعسكر يتوسطه الكولونيل ستيفن راشفيلد وأعضاء من قيادة المعسكر بينهم مسؤول الإستخبارات ومسؤول التحقيق. كانت الأكف مشبوكة على الطاولة والظهور مرفوعة وقد بدا الكولونيل متأهباً رافعاً رأسه ووجهه ممتقع”. ص 269
خلاصة القول فيما يخص الصور السردية هنا هي أن أغلبها وأخطرها جاء بعين المحتل من خلال المقرب أو من خلال الطائرة السمتية المحلقة وهي تمشط الأرض بحثاً عن أهدافها الخاصة، وهناك صور لأماكن تعود إلى العام الذي التقى فيه الصديقان في السعودية والبحرين، وثالث نوع يرصد مشاهد للحياة الريفية في العراق والتي جاءت أيضاً بعين جنود الإحتلال، أما الصور الأخرى فكانت لأشخاص يعيشون في أمريكا كعائلة لإحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية.