محمد الدميني يغادر “القافلة” وهي في الخامسة والستين..! وقّع مقال تقاعده.. وتذكر سنوات الابتدائية.. وسرد قصة المترجمين الثلاثة
الدمام: صُبرة
تبغى الصراحة..؟ ما أعرف تاريخ ميلاد متى..! ولدت في بيت طيني.. وتسجيل تاريخ ميلادي كان اعتباطياً، بحكم بدائية الإجراءات في الباحة.
هذا ما قاله الشاعر محمد الدميني لـ “صُبرة”، حين سألته عن تاريخ ميلاده بالتحديد. لكن الشاعر الذي غادر منصب رئاسة تحرير مجلة “القافلة” متقاعداً من شركة أرامكو السعودية؛ اعترف بأن المجلة الثقافية المشهورة لا تكبُره إلا بـ 5 سنوات فقط.. هو في الستين، وهي في الخامسة والستين..!
الدميني كتب مقالة مؤثرة في العدد الأخير من المجلة.. مقالة وداعية، وبثّها اليوم عبر حسابه في “فيس بوك”، سارداً قصة المجلة التي ما زالت شابّة وهي في هذا العمر الطاعن. وقد بدأت علاقته بها منذ سنة 1992، حين انضمّ إلى فريق تحريرها مزامناً رئيس تحريرها الأسبق خالد الخالد، ونجيب القضيب، وعلي المرهون، وعبدالله خيرت.
لكنه غادر الفريق، عام 2002، ليتفرّغ لأعمال قسم النشر العربي في إدارة العلاقات العامة في الشركة، وتقلد مسؤوليات في الصحيفة الأسبوعية للشركة “القافلة الأسبوعية”، كما في مطبوعات أرامكو السعودية باللغة العربية.
وفي عام 2009؛ عاد الدميني إلى المجلة “رئيساً للتحرير”، واستمرّ حتى العدد الأخير الصادر لشهريْ يوليو/ أغسطس، حيث كتب الوداعية، وسجّل إحساسيه بعلاقته التي كان على رأس هرمها منذ سنتها الـ 56، حتى غادرها وهي في الـ 65..!
الدميني خريج جامعة الإمام بن سعود الإسلامية، تخصص علوم مكتبات. والتحق بأرامكو السعودية سنة 1981، في المكتبة المركزية، ثم انتقل إلى إدارة العلاقات الحكومية، وفي 1992؛ انتقل إلى العلاقات العامة، وأمضى عمله في منشورات الإدارة ومطبوعاتها.
37 سنة أمضاها في الشركة، ومنح صحيفة “اليوم” جزءاً منها في القسم الثقافي بين عامي 1982 و 1990، وشارك في “المربد” و “اليوم الثقافي”. وخلال رحلته مع الأدب والثقافة والصحافة؛ نشر ثلاث مجموعات من الشعر، هي: “أنقاض الغبطة” في 1989، “سنابل في منحدر” في 1994، “أيام لم يدخرها أحد” في 2014.
وفيما يلي المقالة الوداعية التي نشرها الشاعر الدميني في مجلة “القافلة”، عدد شهري يوليو- أغسطس ٢٠١٨م وهو العدد الأخير له كرئيس لتحريرها. وهي “كلمات تتّجه إلى قراء المجلة وفريق تحريرها وتصميمها ورقياً ورقمياً ولأصدقائها في كل مكان”، على حدّ قوله:
تحية وداع لمجلة “القافلة”
لكل قارئ عاشق لهذه المجلة قصته الخاصة معها
ربما كانت قصة طويلة أو قصيرة أو عابرة، لكنها كلها تنسج مدوّنة خصبة لهذه المطبوعة الرائدة ..
لدى بعض قرائنا سيرة طويلة مع المجلة فبعضهم ورث أعدادها من أب أو جد عمل في الشركة ردحاً من عمره، وارتبط بها بحيث أضحت جدولاً علمياً ومعرفياً متجدداً يعود إليه. وبعضهم لا تتجاوز معرفته بها أكثر من صدفة حدثت في مكتبة أو مقهى وربما طاولة صديق فأيقظت فيه إحساساً بما تختزنه المجلة من محتوىً وتدفعه إلي متابعتها ورقياً أو رقمياً. وقد كتبت سابقاً أن أعداد المجلة قد سجلت باقتدار ملامح هذا المجتمع صحراوياً كان أم قروياً أو ساحلياً وأرّخت لمراحل نموه وتفوقه على ظروفه القاسية بالكلمة والصورة وعبر سلسلة من الاستطلاعات النادرة التي وثقت لحياة الناس ورصدت بواكير التحاقهم بالعصر الجديد. وربما أجازف بالقول أن القافلة كانت المجلة الأولى التي تشرح صناعة النفط والغاز والمعامل والأنابيب وبواخر الشحن عبر البحار، وتقدم معرفة تخصصية في زمن شحيح عن مصادر الطاقة الأحفورية التي أصبحت حجر الزاوية في اقتصاديات العالم وسياساته وخططه المالية وقفزاته الصناعية والتكنولوجية.
ليس هذا فقط فقد سجلت المجلة ملامح مدن عربية وإسلامية عريقة والتقط مصوروها حزمة من الصور النادرة.
ولكن عليّ الاعتراف أن هناك جيلاً لا يتعرف على المجلة إلا حين يلمح صورة أو رابطاً أو مقالة تمرّ أمام عينيه عبر صفحات الشبكات الاجتماعية ولم يعد معنيّاً كثيراً بدلالات التاريخ وأحداث الماضي وما يهمه هي لحظاته الراهنة وما ينهمر أمامه في كل لحظة من أخبار ومستجدات ولحظات وصورٍ عابرة لا يحصيها أحد. لذا فإن علينا أن نكون أكثر رفقاً حين يخاطبنا أحد شبابنا بأنه لم يسمع بهذه المجلة فهذه من لوازم العمر وافتراضات الثورة الصناعية الرابعة.
وسوف أنتهز مناسبة عبور هذه المجلة إلى عامها الخامس والستين، لأروي طرفاً مبكراً من سيرتها ..
ولدت هذه المجلة بين أيدي ثلاثة مترجمين عام ١٩٥١م رفعوا رغبتهم إلى إدارة الشركة التي خاطبت الحكومة وصدر عدد تجريبي منها باسم (الأحداث) أواخر ذلك العام، ولم تكن الفكرة إصدار مجلة ثقافية كما نعرفها اليوم بل نشرة أسبوعية هدفها بناء جسور صداقة وتواصل معرفي بين موظفي الشركة العرب، لكن العدد التجريبي الثاني صدر باسم آخر هو (الحوادث) وبعد مكاتبات ومذكرات عديدة بين أرامكو والوزارة المعنية استقرت التسمية على (قافلة الزيت) التي حمل أول أعدادها تاريخ أكتوبر ١٩٥٣م الذي لم يسلم من التجاذبات بين الشركة ومديرية شؤون الزيت والمعادن حتى انتظم صدورها بعد ذلك.
والشاهد أن هذه المطبوعة التي بدأت كمنصة تربط بين العمال والموظفين الناطقين بالعربية داخل الشركة تحولت لاحقاً إلى جسر يربط الشركة بالكتاب والأدباء وقادة الرأي العرب في بلادنا العربية ودول المهجر البعيدة. والمجلة انطلقت وعاشت كل هذا العمر لأن الشركة قررت مبكراً أن تكون هدية بلا مقابل لقرائها ومحبيها وراكمت عبر هذه المبادرة إرثها الجميل الذي تمنيناه لدوريات عربية عريقة خرجت من الساحة لأنها لم تجد رعاة (أفراداً ومؤسسات) يحفظون تاريخها ويرسخون وجودها لتواصل رسالتها وأثرها، رغم معرفتنا الثابتة أن الأموال تهدر في مشاريع خاسرة أو تمرق عبر فجوات الفساد رغم حاجة المشاريع الثقافية والفنية لفتات تلك المشاريع.
وبما أن لكلّ قصته معها، فإن أول معرفتي بها تم في المرحلة الابتدائية حين كان بضعة من رجال القرية الموظفين في أرامكو يجلبون أعداداً منها في حقائبهم المحملة بالهدايا وكانت روائح العطور والملابس تلبث مختبئة بين صفحاتها لتستيقظ كلما قلبناها أو تبادلناها مع أنداد الطفولة، وكم أشعر بالامتنان لتلك الوجوه، التي غادرنا بعضها الآن، ولم تقرأ سطراً منها بحكم أمّيتها لكنها وضعت بين أيدينا كنوزاً صغيرة ستسهم في توجيه مساراتنا وشخصياتنا إلى الأبد.
لكنني سأستثمر هذه المناسبة لأعلن مغادرتي هذا الموقع الأثير، الذي سيبقى أجمل ختام لحقبة عملية زادت على ثلاثة عقود مع هذه الشركة الفريدة التي تعد تاجاً وطنياً وعالمياً لا يضاهى. والأمل معقود بالأصدقاء الذين سيديرون دفّتها في المرحلة القادمة ويحملونها إلى أرض جديدة ملأى بالأشجار والسنابل والخيالات الخضراء كما عبر شاعرنا جاسم الصحيّح وهو يحتفل معنا بخمسينية القافلة.