إحسان الإنسان حكاية القافل إلى بيته بأجنحة الحنين
حسن دعبل
لم ألتقِ بالمرحوم إحسان الجشي، ولا مرة عابرة جانحة. ولم تكن لي ميول رياضية بكرة اليد، إلا بعد منتصف العقد الثمانيني.
تابعت فيلماً وثائقياً عن مسيرته الرياضية بلمسة إنسانية حانية. في وصف التقرير الوثائقي لقاءات لمقربين وبعض الأهل، ومن زامله من أقرانه في لعبة كرة اليد، ومجلس إدارة ناديه، أو حاضنته الأولى. يتناول بداياته الأولى للعبة كرة الطائرة في نادي الشاطىء، وتلك بوابة أغلقتْ بغفلةٍ عن تأثره ربما بأخيه اللاعب شوقي الجشي، وكوكبته المضيئة في تلك الفترة السبعينية.
حينها نصحه المدرب بالتحول لكرة اليد لبنيته الجسمانية. من هنا تنحو الحكاية بالتحولات في سرد المسيرة الإنسانية بصبغتها الرياضية، وفي فترة زمنية تبدو الآن حالكة على نهاية حقبتها السبعينية لأبوابٍ ستنفتح على تحولاتٍ اجتماعية ومناطقية من بوابتها الثمانينية. ينتقل إحسان للمنطقة الغربية للدراسة الجامعية، ليجد نفسه حائراً بين بوابتين: الإتحاد والأهلي.
التقرير أيضاً لم يُغفل هذا التحول، والمنافسة المُستعرة بداية بين الإتحاد والأهلي، وتحولاً في المنافسة بين الأهلي والخليج، متألقاً ونجماً بين لاعبين كُثر في الفريقين.
لا يبدو إحسان راودته عقدة المكان وتحولاته، ولا رياح سمومه؛ هذا ما يفصح به التذكّر في السرد قبل الذّكريات من لاعبي الأهلي ونجومه، وآخرين رافقهم في المنتخب أيام كان لاعباً. ذكروا له حلمه لحظات الغضب وفقدان الأعصاب، وتواريه عن المشاحنات واللّغو السائد بعد المباريات، وخاصة بين الاتحاد والأهلي.
إحسان اللاعب لم يتوارَ عن الأنظار بعد اعتزاله وخياره الشخصي، وارتباطه الوظيفي؛ قفل راجعاً إلى بيته بجناحي الحنين، ولم يخل بما تعاهد به، أن لا يلعب لنادٍ آخر غير الأهلي، وخاصة منافسه الخليج. لكن الكائن الانسان بداخله، لم يهدأ ببحبوحته والمكان، فعاود كرّته؛ لكن هذه المرة إدارياً وقائداً للفريق المُدمج.!
تلك تجربة خاضها بثقةٍ وتحدٍ، متفائلاً بروحه الحاملة انسانيتها على ريح الصعاب الجسام.
تبدو السيرة أقرب لصورة رياضية شاملة، لمن لم تجبله الأيام. لكن الرجل اعتاد على المشي بين الصعاب بروحه الحالمة والضاحكة البشوشة؛ فنثر رؤاه وأفكاره على طاولة الملاعب، وبين جلاّسه ومضماره الرياضي. تلك أفكار غرائبية للتخطيط المستقبلي، لنادٍ لم تبتعد به جغرافيته غربيّ سياج النخيل. هكذا يسرد أحد زملاء الإدارة، عن المنشأة الجديدة لنادي الترجي، المنفتحة على الآخر.
ربما نظرة ثاقبة اكتسبها بحسّه الإنساني المنفتح.
اللمسات الإنسانية التي سُردت بعفوية هي الأكثر إيلاماً للنفس، وأثرها الباقي في الوجود بعد الغياب. فهل هناك عفويةً أكثر مما قاله حسين عبد الرحيم:
أعطاني أبو حسن خمسة مظاريف، لي ولعمال آخرين وافدين في النادي في ليلة عيد، وقال لي بضحكته المعتادة: هذه لكم.!
الكائن الإنساني، اجتماعي بطبعه، فلم يغفل المبادرات الاجتماعية والشراكة بين الرياضة والناس، هذا ما سردَ في التقرير الانساني عن مسابقة تحفيظ القرآن، أو حتى تلك اللحظة الفجائعية من تفجير مسجد القديح، ووقفته الاجتماعية والوطنية معاً.
السيرة خيط رفيع لم يُشدّ بهذا التذكر، والسرد العابر بتحفظ، وصبغته الرياضية لكائن نذر روحه للإنسان بنقائه وبياضه.
غابت الطفولة وصرختها الأولى والبيت، وغابت ذكريات حبوها ومشيتها، وغاب بيته الأخير القبر، الذي غطاه وآمنه. ولم تغب تلك اليد البيضاء، وصاحبها من سرد الذكريات وأثرها.