[تاريخ] حاكم الأحساء يستدعي ملا حسن الجامد.. لأنه “مصدر إزعاج”…! شخصية مخضرمة بين مهنتين: الفلاحة والخطابة.. وبين عهدين: العثماني والسعودي

تغوّل الإخوان منعه من القراءة.. وعاد إليها بإلحاح الشيخ المعتوق ووساطة ابن فارس

القطيف: صُبرة

عاش الملّا حسن الجامد بين عهدين؛ التركي والسعودي. وُلد سنة 1285هـ، وحين بلغ الـ 46؛ انتقل الحكم في القطيف من الدولة العثمانية إلى الدولة السعودية الثالثة. كان ذلك سنة 1331هـ. ثم عاش الجامد في العهد السعودي إلى أن تُوفي سنة 1375هـ.

ويُشار إلى الجامد بوصفه واحداً من أهمّ مجدّدي الخطابة الدينية في القطيف، وتُروى في سيرته تفاصيل لا تخلو من غرابة. ومغزى ذلك مكانة الملّا الذي ترمز حياته إلى كثير من الإشارات الاجتماعية والثقافية في المرحلتين اللتين عاصرهما: مرحلة الحكم العثماني في نهايته، ومرحلة الحكم السعودي في بدايته. كما تُشير إلى وضعه المخضرم، أيضاً، بين مهنتين: مهنة الفلاحة التي بدأ بها حياته، ومهنة الخطابة التي أمضى فيها عمره..!

من النخل إلى المنبر

بدأ الجامد حياته فلّاحاً ضمن عمل أسرته التي استأجرت ـ بواسطة جده مهدي ـ أحد بساتين أسرة الجشي. وشاءت المصادفة أن يزور المالك أحمد الجشي بستانه متفقداً، كما هي عادة مُلّاك البساتين في زمن “التضمين”، ليجد صَبيّاً يترنّم أثناء عمله بنعيٍ حسيني. أثار صوت الصبي شجن الجشي. وتقول سيرته إن الأخير؛ وجد الصبيّ خاتماً” القرآن، عارفاً القراءة والكتابة؛ فتعهد أمره وبدأ في تعليمه أصول العربية.. وهكذا؛ تغيّرت حياة الصبيّ تماماً، وانتقل من الفلاحة إلى الخطابة.. من النخيل إلى المنابر..!

أستاذ عراقي

يبدو أن موهبة الصبيّ كانت واضحةً جداً، حسبما يُفهم من سيرته، وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري؛ كانت القطيف فقيرة في الخطباء. وفي أيام عاشوراء كان يزورها خطباء عراقيون يُحيون الأيام. من بينهم الخطيب الشيخ علي بن عياش الدورقي، الذي تتلمذ “ملا حسن” على يديه وهو في الرابعة عشرة من عمره. كما اتصل كثيراً بالخطباء المعاصرين العراقيين الوافدين إلى القطيف في ذلك الزمان، أمثال الملا أحمد بن رمل والملا اخضيّر والسيد سعيد. وهذا التواصل أتاح له معرفة المهارات، لكن تعليمه بدأ على يد الحاج أحمد الجشي، وابنه الشيخ محمد علي، والشيخ علي الجشي.

وبعد اشتداد عوده؛ صار مطلوباً لـ “القراءة” في نواحي القطيف، كما توجه أيام شبابه للقراءة في البحرين ومسقط، وقرأ إحدى السنوات في العراق.

موقع اجتماعي

أوجد الملا حسن لنفسه موقعاً في زمانه، وارتقى في الموقع إلى الاجتماعي إلى طبقة “الخطباء”. هذه الطبقة هي الثانية في هرم الثقافة في ذلك الزمن. الطبقة الأولى هي طبقة العلماء، علماء الدين. وبعد طبقة الخطباء تأتي طبقة المتدينين المتعلمين المحيطين بالعلماء والخطباء. وأخيراً تأتي طبقة العوام، وغالبيتهم من الأميين الحرفيين الذين صرفهم الكدّ والعمل عن التعليم.

وشاية تركية

ولكنّ هذا الارتقاء لم يكن خالياً من المتاعب. وبعض هذه المتاعب كان له علاقة بوضع القطيف عامة. في العهد التركي سعت وشاية لدى حاكم سنجق الأحساء إلى منعه من الخطابة. وقتها كانت الأحساء مركزاً إدارياً يضمّ ثلاثة أقاليم: الأحساء والقطيف وشبه جزيرة قطر. استُدعيَ الملا حسن إلى الحامية العسكرية في قصر إبراهيم باشا الذي ما زال موجوداً إلى اليوم.

وفي القصر استقبله مسؤولٌ تركي من أصل عراقي، وكان يزعم انتماءه إلى الأسرة الهاشمية. أبلغه المسؤول التركي عن الشكوى التي تتهمه بأنه “مصدر إزعاج”. فدافع الملا حسن عن نفسه؛ بأنه يعظ الناس ويرشدهم ويوجههم نحو تعاليم الإسلام.

فطلب العراقي منه أن يقوم خطيباً ليستمع له ويحكم عليه. وجمع الناس في القصر ليكونوا شهوداً على ما يجري. فقام الملا خطيباً ناصحاً. وفي الختام نزل من المنبر وتوجه إلى الحاكم وقال له”هل ترضى أن يُكبّ جدك الحسين ابن رسول الله على وجهه ويصعد الشمر على ظهره ويحزّ رأسه بالسيف..؟” فتأثر الحاكم بكلامه وخلع قبعته وظهر الحزن عليه.

ثم أثنى المسؤول على الملا حسن وكرّمه ودفع له 20 جنيهاً ذهباً، ونهى الناس عن التعرض له، وطلب منه الاستمرار في خطابته.

قصر إبراهيم باشا في الأحساء كما هو وضعه الآن (إنترنت)

محنة الإخوان

في بداية العهد السعودي واجه الملّا بعض المتاعب أيضاً في مرحلة تغوُّل الإخوان، وتسبُّبهم في كثير من المتاعب في كثير من أنحاء الدولة السعودية الناشئة التي أسّسها الملك عبدالعزيز، رحمه الله. قصة الإخوان معروفة في التاريخ السعودي. فبعدما بسط الملك عبدالعزيز دولته في أغلب أقاليم الجزيرة العربية؛ بدأوا يُثيرون مشكلات بسبب تشددهم، فاعترضوا على استخدام الدولة الأجهزة الحديثة، وضيّقوا على الناس شؤون حياتهم ومصالحهم. وقد حاول الملك عبدالعزيز معالجة الأمور معهم بهدوء. لكنهم زادوا الأمور تعقيداً بمحاولة توجيه سلاحهم ضدّه. وقد حسم الملك عبدالعزيز الأمر بفرض إرادة الدولة.

كان الشيعة ضمن المتضررين بتشدد الإخوان، ووصل الأمر إلى منع الخطابة الحسينية في القطيف عامةً. اضطرّ الناس إلى إقامة المجالس الحسينية بشكل شبه سرّي. كانوا يقيمون المجلس ويكلفون حراساً من القرية لمراقبة مدخلها؛ فإذا جاء من “الإخوان” تفرُّقوا وكأن شيئاً لم يكن.

قراءة في زمن المنع

طال المنع الخطباء جميعهم. وبينهم الملا حسن. لكنّ تدخلاً جريئاً تم على يد علي بن حسن بن فارس؛ منح الملا الجامد استثناءً. كان بن فارس، وقتها، وكيل مالية القطيف. وتقول القصة إنه زار الشيخ عبدالله المعتوق في تاروت؛ فوجده يسكن بيتاً متواضعاً. وعند مغادرته؛ دسّ مبلغاً من المال تحت فراش الشيخ. فلما وجد الشيخ المبلغ لاحقاً؛ أرسل من يعيد المال إلى ابن فارس. فما كان من الأخير إلى معاودة زيارة الشيخ في تاروت، والإلحاح عليه بقبول المال. كان مقصد ابن فارس أن يوسّع الشيخ على نفسه وعياله، بشراء منزل يليق بمكانته. لكن الشيخ أبى القبول. وبعد إلحاح ورفض؛ اقترح الشيخ حلّاً؛ هو أن يُصرف المال على قراءة الملا حسن الجامد شهراً كاملاً في تاروت، ويُصرف باقي المال في إطعام الناس بعد كلّ قراءة.

كان الطلب في حكم المحال، بسبب منع القراءة. لكن الشيخ أصرَّ على طلبه، ليتدخّل ابن فارس مع حاكم القطيف، وقتها، عبدالرحمن بن سويلم، ويعود الملا حسن الجامد إلى القراءة.

كانت المشكلة الأساس؛ هي تدخُّلات الإخوان في بداية تكوين الدولة السعودية الثالثة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله. وقد انتهت إلى الأبد بعد القضاء على تطرّف الإخوان، واستمرّ الشيعة في إقامة شعائرهم على مدار العام، دون أدنى تدخل حكومي.

————

تنويه: معظم مادة الموضوع منقولة ـ بتصرف ـ عن كتاب “على أعتاب الحسين” للؤي سنبل.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×