“أبو مَريُوش”.. أسطورة العبّاس اللامعة في الثقافة الشعبية إسقاط الواقع على الموروث يؤسس صفاتٍ في كل جيل
من المؤثّر جداً تناول شخصية العباس بن علي، خاصة في مثل هذه الأيام، وعلى نحو أخصّ في مثل هذا اليوم. للعباس صورة أسطورية محفوظة في الوجدان الشيعيّ، إلى حدٍّ تتفسّر معه ظواهرُ لا تخلو من غرابة، في محيط المجتمع العراقيّ الذي أسبغ على الفارس الهاشميّ صفاتٍ من صميم التفكير الاجتماعي الذي تكوّن بعد قرونٍ من استشهاد العباس في كربلاء..!
حتى يومنا هذا؛ يحلف العراقيون باسمه، ربّما أكثر مما يحلفون باسم أخيه الحسين. “حارّ الراس”، “سبع القنظرة”، “أبو مريوش”، “حامي الضعينة”، “ساقي العطاشى”، “الكفيل”، “قطيع الكفّين”، “المهيُوبْ”، “قمر بني هاشم”.. كلّها صفاتٌ مُنِح العبّاس إياها من تصوّراتِ الناس، وفهمهم لسمات الفارس في زمانهم، ومن تفسيرهم واستنتاجهم لدوره البطوليّ في المعركة التي وقعت في عاشوراء عام 61 هج..!
حتى أن بعض النعي العراقيّ يُصوّر مروءته من خلال شاربه عند مخاطبة أخته السيدة زينب أياه:
أنا بشارْبكْ لا تقول مَدري..!
تاريخياً؛ ثبت العباس مع أخيه في المواجهة، وتجاسر على مقارعة جيش كثير العدد. وتسرد بعض المرويّات المتأخرة تاريخاً موقفاً عاطفياً معقّداً أثناء وصوله إلى النهر، فقد أبى أن يشرب من ماء النهر وهو عطشان. واكتفى بملء القربة. وهذا التفصيل؛ موجودٌ مثله في سيرة الإسكندر الأكبر الذي أبى أن يشرب الماء قبل جنوده..!
ترمّز العباس، أكثر، في صورة:
الأخ حزام ظهر أخيه،
والأخ حامي أخواته،
والعمّ الحاضن،
بملء ما يمتلك من هيبة، وشجاعة، وثبات، وتضحية، وفداء، ونخوة، ومروءة، وسائر ما يتمتع به الفارس النبيل المنحدر من صلب علي بن أبي طالب.
هذه الرؤية، ذات التداخل التاريخي الأسطوريّ، تغلغلت في الوجدان الشيعي عموماً. استحال العباس أيقونة لامعة تتحدّ ـ في تصورها ـ الصلابة بالرقة، الإيثار بالتضحية. وبمقاربة ما يمكن القول إن العباس هو صورة مصغرة من أبيه علي.
سطوة أسطورية
للعبّاس بن علي، في الثقافة الشيعية، سطوة أسطورية فارهة، أمدّها تاريخ التعاطي مع تفاصيل واقعة كربلاء بالكثير من التصوّرات البطولية التي جعلت منه رمزاً لـ “المرجلة” الاستثنائية.
هذا الـ “استثناء” اصطبغ، عبر التاريخ، بالبيئة المحيطة بقبر العباس الواقع على مسافة واضحة (لكنها محدودة) من قبر الحسين وأبنائه وأنصاره الآخرين.
أُسقِطتْ قيم البيئة “المثالية” على شخصية ذلك الفارس الفدائيّ الجسور الذي قال عنه التاريخ إنه وجد نفسه وسط نهر العلقميّ ظامئاً عطِشاً، دون أن يشرب منه قطرة واحدة، إجلالاً لعطش أخيه الحسين وعطش النساء والأطفال..!
ملأ القربة ماءً، وهرع إلى المخيم، لكنه قُتل قبل وصوله، وقُطعتْ كفّاه أثناء مواجهته رجال عمرو بن سعد.
كانت مهمة العبّاس التي قُتل أثناءها، هي إحضار الماء للنساء والأطفال. وعلى الرغم من أنها مهمة لم تتمّ؛ فقد منحه التراث وصف “ساقي العطاشي”. وثمة روايات تقول إنه أنجز أكثر من مهمة مشابهة وأوصل الماء إلى المخيّم قبل مقتله في المهمة الأخيرة، لكنّ تتبعي المتواضع لم يقف على قطع بذلك.
كافأ التراثُ العبّاسَ على مُهمةٍ لم تُنجز؛ إكراماً لشهادته ونخوته و “مرجلته”، وغيّر كُنيته من “أبي الفضل” إلى “أبو فاضل” ليحملها كلّ من يحمل اسم “عباس”. وجعل منه أكثر أبطال كربلاء حملاً لنياشين الألقاب، وعلى نحو قد يفوق أخاه الحسين أيضاً..!
حارّ الرّاْس
عُرف العباس في التراث الشيعي بـ حامل اللواء، و قمر بني هاشم، و قطيع الكفّين، والسقاء، وباب الحوائج، وحامي “الضعينة”، وبطل العلقمي، وكبش الكتيبة، والعميد، وبطل “الشريعة”، وسبع القنطرة، و “الكفيل”..!
ولكل لقب حكاية ما تتناول سيرته من وجه من الوجوه..!
لكن اللقب الأخير رُبط بالسيدة زينب ليُعبّر عن واحد من أشدّ دلالات المُروءة تأثيراً في النفس. فالعبّاس ـ حسب مروياتٍ ـ هو الذي أقنع السيدة زينب بالرحيل مع الحسين، لذلك فهو “كفيلها”، وحارس هودجها في الرحلة الطويلة من المدينة إلى كربلاء..
وعلى هذا يقول النعي الشعبي على لسانها مُعاتبة إياه بعد مقتله:
يعبّاسْ منتـَهْ اللّيْ جـِبـِتْني
وبيدكْ يخويـَهْ ركّبـِتْنيْ
عُقْبَكْ بني امّيـَهْ ولتـْني
دِقـْعـِدْ يخويـَهْ وشوفْ مـتـْنيْ
واسياطْ زجْر إلْوَرّمتـْني
ومعناه “يا أخي؛ أنت الذي أخذتني معك في الرحلة، وأركبتني بيديك في هودجي، وبعدك صرتُ مسبيةً لبني أمية، فانظر إلى ظهري وأثر سياط زجر فيه”، وزجر ـ حسب الروايات ـ هو أحد جنود السبي..!
مضت اللغة الدارجة في هذا السياق فمنحته “حارّ الراس” لقباً في إيماءة واضحة إلى صرامته التي امتدّت ـ في الفلكلور العراقي ـ إلى ما بعد استشهاده. إنها صرامة الفارس الجادّ في ملامحه الـ “مـَهْيُوب” في كلّ حالاته.
الفارس المبدئيّ الذي تصل سطوته إلى الظالم إنصافاً للمظلوم. وهذا النوع من الفرسان يتمتعون بمزاج حادّ، وجسارة صارمة لا تتهاود. وهذه الصورة جاءت من البيئة العراقية الجنوبية. إنهم يعرفون “النشامى” بهذه الملامح.
و”حرارة الرأس” التي ابتكرها الفلكلور؛ جعل العراقيين الجنوبيين ـ تحديداً ـ لا يتجاسرون على الحلف بالعباس كذباً، يتساوى في ذلك شيعة الجنوب وسنّته. ووصل الأمر حدّ الاحتكام عند ضريحه بين المتنازعين في القضايا. رسمت الثقافة الشعبية لشخصية العبّاس صورة مُرعبة حتى وهو راقدٌ في ترابه.
الأسطورة العبّاسية لم ينحصر مُنتجها الثقافيّ في محيط الجنوب المتحضّر، بل امتدّ لتتشّكل صورته بكل بيئة شيعية تغلغل العبّاس في وجدانها. وجاء وصف “أبو مريوش” من التراث ليصوّر ذلك الفارس الذي يتشبّه به الفرسان الآخرون..!
أبو مَرْيُوشْ..!
ويبدو أن مصدر خرافة “التشوير” عراقيٌّ. ففي العراق يكاد يكون “التشوير” فوبيا اجتماعية تجاه الأولياء والصالحين. وتمثل شخصية السيد العباس بن علي، المدفون في كربلاء، ذورة الأمر، إلى حدّ أنهم يخافون الحلف به كذباً، تحاشياً لـ “التشوير”.
وقد يقصد حرمَه شيوخ العشائر والمتنازعون ليحْلفوا عند مرقده.
وفي الثقافة الشعبية العراقية، الكثير من القصص والحكايا والصفات البطولية الخارقة التي شاعت حول شخصيته، عليه السلام.
وعلى الرغم من أن العباس بن علي ليس من أئمة الشيعة وليس من ولْد فاطمة، عليها السلام، فإن شخصيته مُحاطة بهالة من “الهيبة” تُخيف الكثيرين. وهو ما جعل منه شخصية أسطورية في الثقافة الشعبية العراقية. حتى أن الفسَقة والطالحين يتحاشون دخول حرَمه خوفاً من “تشويره”..!
الصورة الأسطورية للسيد العبّاس آتية من بطولته التي صوّرها التاريخ في موقعة كربلاء. فقد كان ساعد الحسين الأيمن في المعركة، وحامل لوائه. وتفاصيل قصة مقتله ممتلئة بقيم الجسارة والفداء.
وجزءٌ كبير من هذه الرؤية الشعبية العراقية موجود في القطيف القديمة.
حبيب محمود