العربية.. عاد يومها الكاشف عن تيهنا
أحمد فتح الله
“يوم اللغة” و “يوم الأم” و “يوم الأرض” وباقي أيام القضايا والهموم الإنسانية ضرورة لنشر الوعي والثقافة حول قضية المناسبة، وتذكيرٌ بأزمتها والبحث عن وسائل لحل مشكلتها وتطويرها للأفضل والأحسن، ولتعديل سلوك وفكر المعنيين بها للتعامل معها. ولكل أمر وقضية متخصصون بعلم ومنهجية، تأخذ المعرفة منهم للقرار الصحيح والسلوك الأمثل، بعيدًا عن العاطفة المكبلة والعصبية الضارة بأساطيرها المخدرة.
وقد سبق أن قلت وكررت أن اللغة العربية المعاصرة لا تنقدها احتفالية “كرنفالية” مبالغ فيها، وخوفي أن تتحول عيدًا استعراضيًّا ببهرجة لا تهم “المريضة المعنية”، إنما المحتفلين بها فقط، بما يُشعر أنها أقرب لمقاربة “تكفيريَّة” عن التقصير أو العجز (الفعلي أو المُوحى) عن العلاج الحقيقي، وهو دخول العرب في التاريخ الذي خرجوا منه (كجماعة وليس كأفراد). وحين يفعلون، وفقط حين يفعلون، الحضارة “تغرد عربي” و “تُقَوقِل” مع الألسن الأخرى، بما يتناسب مع حجم أهلها الكمي والكيفي.
تيهنا حضاري وليس لغوي
يدعي البعض أننا نحن العرب نعاني من “تيه لغوي”، والواقع هو “تيه حضاري” يكبّل العربية. فحين تنتج الأمة فكرًا وعلمًا وصناعة وتسمي “المنتجات” بلغتها تعانق تلك اللغة السماء وتفرض وجودها في الآفاق كاسرة القيود والأغلال مهما تكن، فالألفاظ أوعية “المعاني” والجمل معابر تدفقها، وما اللغة سوى معانٍ منطوقة أو مكتوبة.
ولا ننس أن الأيام دول، وقد أخذنا نصيبنا من دولتها في مسيرة “إمبراطوريات الكلمة”، كما يسميها نيقولاس أوستلر. والسؤال هو هل لنا عودة؟ فمتى عدنا… عادت العربية ولن تعود العربية إلا في أمة تفرض وجودًا لها في زمن الصراعات المتعددة وأنواع التنافس المتسارعة.
باختصار، واقعنا اليوم هو: اللغة ليست هي السائل المسكوب من الإناء، الإناء هو المفقود. وكذلك، اللغة لا تتيه، فليرجع التائهون وليركبوا قطار الحضارة منتجين لا مستهلكين، مستطعمين لا مجترين.
لا يضر اللغة الاقتراض بل الاجترار، الاجترار يقوقعها في حيز يضيق مع الزمن حتى تموت اختناقًا. نعم، اللغة لا تنقرض إلا بانقراض أصحابها لكنها قد تموت وهم أحياء، تموت بداء الماضوية (absoletness) بسبب فقدان أصحابها على الإبداع (تجديدًا وتطويرًا).
وفي الأثناء، عندي أمل وثقة في تحقق عودة العربية على المسار الصحيح بيد وفكر المخلصين بوعيّ. فلنا في تاريخنا العربي عبرة كما لنا في تجارب بعض الشعوب مع لغاتها دروس ومناهج يمكن الاحتداء بها.
التجربة الصينية المعاصرة، على سبيل المثال، كبعض من مثيلاتها في التاريخ المعاصر، تؤكد أهمية دعم السياسي (صاحب القوة والقرار) للغوي (صاحب المنهج والرؤية) في نهضة اللغة وتطورها (انظر: “التخطيط اللّغوي في الصين” (Language Planning in China)، لـ«لي يومينغ» (Li Yuming)، برلين وبكين: موتون دي جروتر والصحافة التجارية، 2015م).
لذا، لإنقاذ العربية من أزمتها الحالية، نادى اللغويون العرب بضرورة التخطيط اللغوي والذي يعني: ”البحث عن الوسائل الضرورية لتطبيق سياسة لغوية. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بوضع تلك الوسائل موضع التنفيذ أي ربطها بالقرار السياسي. فلا بد من تعاضد اللسانيّ، المتخصص في اللسانيات، بالسياسيّ صاحب القرار من أجل إنجاز الخطة اللغوية كي تضمن اللغة بقاءها والدولة هويتها ووجودها“ (تداخل الألسن، خليل الميساوي: ص: 49-50).
أتمنى في قادم الأعوام أن لا يكون لهذا الحديث تكرار ولا حتى بقية.