عبدالله الربح يوثّق تاريخ المملكة في الصحافة الغربية خلال 104 سنوات أول خبر عن تأسيس السعودية نُشر بعد 48 يوماً من فتح الرياض في "نيويورك تايمز"
القطيف: صُبرة
وقع الحدث التاريخي في 15 يناير 1902، لكن أول خبر صحافي عنه نُشر في 3 مارس. 48 يوماً فصلت الحدث عن الخبر، ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية خبر استرداد الملك عبدالعزيز مدينة الرياض. عبر مراسل لها في بومباي الهندية. وفي أقلّ من سبعين كلمة سردت “نيويورك تايمز” القصة واضعةً عنواناً قصيراً.
الحدث في قلب جزيرة العرب، والمراسل في الهند، والصحيفة في الولايات المتحدة الأمريكية. لكنّ مقاييس عام 1902 ترى ذلك الخبر القصير جديداً جداً على الشعب الأمريكي، الذي لم تكن البلاد العربية تهمّه على النحو الذي ظهر بعد ثلاثين عاماً من بداية القرن الماضي. لذلك؛ كان الخبر قصيراً، ولغته انطباعية بحتة محكومة بأوصاف بعيدة عن الدقة.
لكنّ ذلك الخبر، على قِصره، وثّق المهمّة الأولى التي أنجزها الملك عبدالعزيز، رحمه الله، في تأسيس الدولة السعودية الثالثة، في مرحلة تاريخية حسّاسة للغاية، مستعيناً بالقبائل الكثيرة، التي انضمّت إلى لوائه وجاهدت معه.
عبدالله الربح
بحث دكتوراه
هذا ما وجده الباحث الدكتور عبدالله الربح في استقصاء تاريخ الدولة السعودية عبر الإعلام الغربيّ على امتداد 104 سنوات، من عام 1901 حتى عام 2005م. فقد اختار الباحث اثنتين من أهم الصحف الرائدة في الغرب “لندن تايمز” البريطانية، و “نيويورك تايمز” الأمريكية، واستلّ منهما أكثر من 5000 مادة صحافية منشورة، قارئاً التغطيات الإعلامية لآلاف من الأحداث والمواقف والظواهر السعودية، بما في ذلك العلاقات المتشابكة بين المملكة وبين الغرب..
اهتمام غربي
ويؤكد الربح أن تأسيس المملكة العربية السعودية حظي باهتمام الصحافة الغربية منذ نجاح الملك عبدالعزيز في استرداد مدينة الرياض عام 1902. وبقيت المملكة في ضوء المتابعة الإعلامية على نحو متواصل، راصدة كلّ مستجدّات نُشوء الدولة وأحداثها السياسية والاقتصادية، مستقصيةً جوانب النموّ أمام المجتمع الغربيّ، الذي أخذ يهتمّ، أكثر فأكثر، بتلك البلاد العربية النائية.
ومن المؤكد أن الصحافة الغربية الرئيسة وثّقت الأحداث المفصلية في تاريخ الدولة، من بينها توثيق التايمز حدث ضم الحجاز إلى الحكم السعودي في عددها الصادر يوم 5 أكتوبر 1923، كما وثّقت ضم الجنوب في عددها الصادر يوم 23 يوليو 1925م. وفي 23 يوليو 1926 نشرت “نيويورك تايمز” خبراً عن نجاة الملك عبدالعزيز من محاولة اغتيال.
الصورة تكبر
فيما يخصّ البدايات الأولى؛ يكشف الربح عن أن صورة الملك عبدالعزيز بدأت في الإعلام الغربي مثل نواة صغيرة، ومع ذلك كانت هالة الإعجاب بذلك العربيّ المغامر تُصاحب الأخبار والتقارير.. ثم أخذت تلك الصورة تكبر شيئاً فشيئاً، حتى فرضت نفسها بقوة على الإعلام الغربي، مثلما فرضت نفسها، قبلاً، على واقع الساحة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، متوسعةً في انتشارها إلى ما وراء البحار، حتى أصبحت المملكة رقماً صعباً في المعادلة الدولية اليوم.
وقد تعدّد أسماء الملك المؤسس في الإعلام الغربي في بدايات القرن العشرين. لكنّ أهم اسمين تردّدا في المواد الخبرية والمقالات هما: “عبدالعزيز بن فيصل”، ثم “ابن سعود”.. وهذا الأخير تكرر كثيراً قبل استخدام لقب “الملك” في مرحلة لاحقة من تاريخ الدولة السعودية ومن ثم التغطيات والمتابعات.
ومن ذلك؛ خبرٌ نشرته نيويورك تايمز، في 23 يناير 1926. ورافقت الخبر صورة للملك المؤسس وشرحها “عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود سلطان نجد، الأحساء، القطيف، والجبيل الذي نودي به ملك في مكة يجلس مع عبدالله علي رضا حاكم جدة بعد أيام قليلة من مبايعته في الحجاز”.
فارس عربي
ويقول الربح إن بحثه المطوّل لاحظ “تركيز الأخبار الغربية في بدايات القرن العشرين على الصفات الكاريزمية للملك عبدالعزيز”، منبّهاً إلى أن الصورة “مستوحاة في الثقافة الغربية من الصورة الاستشراقية للأمير العربي”، وبالذات في صفات “الفروسية، الكرم، والشجاعة”.
يضيف “من أبرز الأمثلة؛ الخبر المنشور في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في 24 مايو 1931 تحت عنوان (نصب تذكاري لعبقرية ابن سعود: الاعتراف بمملكة نجد والحجاز التي كلفت ثلاثين عاماً من النضال).
وفي اليوم نفسه، نشرت الصحيفة تقريراً حول رحلة جون فيلبي (عبدالله فيلبي لاحقاً) في صحراء الربع الخالي. وقد أبرز الخبر إطراء “كرم الملك المؤسس لتكفله بنفقاتها ما يعكس الوعي المبكر للملك عبدالعزيز بأهمية الإعلام من خلال توفير المناخ الملائم للمستكشفين الغربيين، الذين أتوا للبلاد لأهداف ثقافية وليس سياسية من أجل استثمارها لرفع سمعة المملكة”.
وعي مبكر
الوعي المبكّر التفت إليه الصحافيون الغربيون ورصدوه في كثيرٍ من الإجراءات والقرارات، التي اتخذها الملك عبدالعزيز، خاصة أنه كان يؤسس دولة ويبني كياناً على مساحة واسعة جداً ومترامية من البلاد العربية.. ومن ذلك “استعانته بالكفاءات العربية لبناء مؤسسات المملكة الناشئة”.. وفي بحثه توقف الدكتور الربح على مقال طويل “كتبه كينيث ويليامز ممتدحاً هذه الخطوة في “لندن تايمز” بتاريخ 17 سبتمبر 1933″.
وتوقفت الصحافة الغربية عند المفاصل المهمة لتكوين الدولة وتوسيعها، ففي 22 سبتمبر 1932 نشرت “التايمز”، عبر مراسل لها في جدة، خبر تغيير الملك عبدالعزيز لقبه إلى “ملك المملكة العربية السعودية”.
ضم الحجاز والجنوب
لكنّ حدث اكتشاف النفط كان مدوّياً بالنسبة للصحافة الأمريكية، وعلى الرغم من عدم وجود مراسلين لها في الساحل الشرقي السعودي عام 1938م، وهو عام اكتشاف النفط، فإن صحيفة “نيويورك تايمز” استعانت بمراسل لها من البصرة، ونشرت خبر اكتشافه في 19 مارس.
وأعدت الصحيفة تقريراً موسعاً وخريطة تحدد موقع اكتشاف النفط، متناولة أهمية الاكتشاف، الذي سوف يغيّر العالم، خاصة أن الكميات التجارية كانت مبشرة جداً. ووضعت الموضوع في إطار الثروة النفطية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، وأهميتها لإمداد العالم بالطاقة الجديدة، خاصة بعد تراجع إنتاج النفط في الأراضي الأمريكية.
وفي مطلع خمسينيات القرن الماضي؛ “توقفت الصحيفة نفسها على استثمار المملكة عائدات النفط في رفع مستوى خدمة الحج، في الوقت الذي ركزت فيه نيويورك تايمز على الاستثمار في الاستعانة بالخبراء الأجانب في تطوير القطاعات الخدمية للبلاد”.
تداول سلمي
ورصد الباحث تطرق الإعلام الغربي إلى المراسلات المباشرة بين الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت بالذات، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي كانت مدار اهتمام القادة العرب وقتها. ومن اللافت للنظر اللغة الدبلوماسية العصرية (المناسبة لزمنها ذلك الوقت)، التي حفلت بها رسائل الملك عبدالعزيز. وأكدت التغطية الإعلامية خلال هذه المدة الزمنية الاستقرار السياسي للمملكة من خلال التداول السلمي للسلطة والموازنة بين الانخراط في الأحداث الإقليمية والاستقرار الداخلي من خلال تطور البنية الحكومية للبلاد.
تطرق الباحث كذلك إلى العلاقة المباشرة بين الأخبار المنشورة والمجتمعين البريطاني والأمريكي من خلال رغبتهم في الاطمئنان على أفراد عائلاتهم، الذين يعملون بالمملكة.
سيادة وطنية
ويقول الباحث الربح إن “من أبرز الأخبار التي تستحق التوقف كانت أخبار موقف المملكة الحاسم أمام دولة عظمى مثل بريطانيا، عندما بثّت فيلماً مسيئاً للمملكة. فقد نشرت “التايمز” بتاريخ 26 يوليو 1980 خبراً ينص على أن “السعودية تُبعد السفير البريطاني في جدة كقرار احتجاجي على بث فيلم بريطاني مسيء للمملكة”. وقد نص الخبر على اعتذار رسمي من بريطانيا للسعودية، مما يبين قوة السياسة الخارجية السعودية. وظل هذا الموقف السعودي حاضراً في الصحافة البريطانية لفترة، ففي 3 يناير من عام 1983 استشهدت “التايمز” بالموقف من خلال التذكير بإبعاد حكومة الملك خالد للسفير البريطاني رداً على الإساءة الإعلامية”.
“وفي خبر مماثل حول قوة السيادة السعودية، نشرت صحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 15 إبريل 1988 خبراً حول “طرد” السفير الأمريكي هيوم هوران من المملكة، بسبب محاولته التدخل في شأن داخلي، هو شراء المملكة صواريخ باليستية من الصين”.
رقم صعب
ويقول الباحث الربح أن محتوى المواد الإعلامية، التي وقف عليها في بحثه الطويل؛ يؤكد موقع المملكة على المستوى الإقليمي والدولي كرقم صعب، استناداً إلى هويتها العربية والإسلامية المؤثرة، إضافة إلى موقعها الإستراتيجيّ من الاقتصاد الدولي.. كما يؤكد الربح أن أحداث 11 سبتمبر لم تؤثّر سلبياً في صورة المملكة في هاتين الصحيفتين، فحتى المقالات التي انتقدت المملكة لم تأخذ الطابع الهجومي الذي أخذته بعض الصحف الأخرى في الفترة نفسها.