[2 من 3] أليف شافاك مرّة أخرى.. أيا صوفيا، سانت بييترو، تاج محل
محمد الماجد
في الأسبوع الذي يصادف كتابة هذا المقال من العام الفائت كان قرابة الثلاثة ملايين مهتم يراقبون – على مسار التتبع الجوي الخاص بجوجل – طائرة رئيسة الكونجرس الأمريكي السيدة بيلوسي بقصد معرفة ما إذا كانت ستهبط في مطار تايبيه أم لا، يحدث هذا على خلفية التصعيد بين الولايات المتحدة والصين حول تهديد هذه الأخيرة لأمريكا بعدم هبوط الطائرة، أتمنى طبعاً أن تكون أليف قد قرأت الخبر، فعلى الأرجح، كان عليها أن تتوقع أن مثل هذا العدد أو يزيد من المعماريين، والفنانين، وحتى المؤرخين، ممن سنحت لهم الفرصة وقرأوا روايتها، قد قاموا برصد وتتبع مسار الأحداث بداخل الرواية حتى آخر علامة ترقيم بقصد معرفة ما الذي سيدور بين رسولَي سنان ومايكل أنجلو وليس لأي هدف آخر.
اختارت أليف منتصف الرواية لتبدأ ببناء علاقة بين سنان ومايكل أنجلو، وإذا كان لهذه الرواية أن تكون جبلاً فأنا ودون شك على قمة الجبل الآن، روما للتو نهضت من نومها فيما جهان وداوود يقومان بتسليم مايكل أنجلو رسالة من معلمهما سنان، هذا في الوقت الذي كان فيه أنجلو مكلَّفاً بترميم مبنى سانت بييترو، وسنان بترميم كنيسة أيا صوفيا، وباستطاعتي من موقعي على القمة أن أرى المخططات والتعديلات التي أجراها كلا الفنانين على التحفة القومية لبني جلدته، وأن أسمع نقاشات التلميذين مع مايكل أنجلو، وأرى كذلك هذا الأخير وهو يكتب ردّاً لسنان.
رأيت وسمعت ما يكفي ولكن لم يزعجني شيء قدر الإزعاج الذي سببته لي أليف بإخفائها لفحوى الرسالتين، ومع نزولي عن قمة الجبل، كانت طروش من المرارة واللوعة تصحبني نتيجة لهذا الأمر، ولم أتمكن من منع معدتي هي الأخرى من التعبير عن امتعاضها عبر سلسلة من التقرحات التي لم تهدأ حتى آخر سطر من الرواية، عشر صفحات من أصل ستمئة صفحة أفردتها أليف لتسرد في عجلة العلاقة بين الرجلَين، وهذا ما لم يفصح عنه زكي، عشر صفحات لم تكن أكثر من طُعم، وكأن أليف لا تعلم بأن كلَّ معماريي العالم وفنانيه لن يكونوا مسرورين بفعلها العدائي هذا، عشر صفحات فقط، في مقابل أربعمائة صفحة خصصتها للفيل شوتا، اكتشفت معها أن القمة التي كنت أقف عليها للتو لم تكن سوى سراب من السرد، وأن الفيل الصغير شوتا وحده كان يتمتع بامتياز السباحة الحرة في ماء الرواية.
وإذن، وإذا ما اعتبرنا رواية أليف هذه مبخرة من السرد، فإن ثلثا ورق الرواية تم حرقه كاملاً في سبيل اختبار حساسية خرطوم الفيل شوتا، فيما الثلث الأخير، مئتا صفحة تقريباً، احتفظت بها أليف لتحول فيها الرواية إلى رواية جريمة، والهندي جَهان إلى محقق جنائي ذكرني بالمحقق غوليالمو بطل رواية إيكو (اسم الوردة)، هذا الجزء الذي نجا من مبخرة شوتا تسارعت فيه أنفاس الكاتبة، ولكن ليست كمن يسقط في هاوية، وإنما كعداء قرر أن ينهي سباق الثلاثة آلاف متر بقرار إطلاق أفضل ما لديه من طاقة بشكل مباغت وخلاب في آن واحد.
لا أدري ما إذا كان أحدٌ ما قد قرأ خطأً نية أليف من وراء هذه الرواية فأساء تقدير الأدوار الخطيرة لـ شوتا، أعرف أن هناك دائماً فرصة للحديث عن دور محوري لرئيس المعماريين سنان وتلامذته، وعن أهميّة ودور العلاقة بين الشرق والغرب كما يملي علينا الروتين النقدي، أو كما تقترح أليف في آخر جملة من الرواية: “أين يسقط الغرب وأين ينهض الشرق”، ولكني ما زلت مقتنعاً بأن كل هذه الأدوار لم تكن سوى قناعاً ليقوم شوتا بكل ما قام به.
ولكي لا تترك أليف موقع الفيل شوتا من أحداث الرواية دون روافع موضوعية، أسندت إليه قائمة من المهام: حضور محافل الختان السلطانية، بناء القصور والجسور، اطفاء الحرائق، عمليات الإنقاذ (إنقاذ الحيوانات بعد حريق القصر السلطاني، إنقاذ كتب مرصد توفاني بعد الأمر بهدمه)، حضور العشاء السلطاني، حفلات التنصيب، الجنازات السلطانية حتى أنه مرة تحول إلى نعش لجثة السلطان سليمان، ثم بذل جسده الضخم بعد موته لمهمات إنسانية (تشريحه من قبل السفير الفرنس)، حتى أن جَهان، مروض شوتا، لم يظفر سوى بـ ناب شوتا، وعندما قام بدفن الناب ووضع شاهدتين على موضع دفنه، صادف ذلك مرور مزارع بسيط فسأله عن صاحب القبر، فأخبره بأنه (للقديس بابا شوتا)، اللقب الذي لم يحظى به أحد من شخوص الرواية سوى (القديس) مايكل أنجلو، ولا أدري ما إذا كان شوتا يطمع في أكثر من هذه الرمزية الروحية التي وضعته في مكانة واحدة مع مبدع منحوتة الملك داوود.
وإذا كان بوسعي أن أترك الدفاع عن شوتا بعد كل هذه الأسطر التي لا أعتقد بأن شوتا نفسه توقعها من إنسان آخر سوى مروضه جهان، فسأتركه فقط لأقف على موضوع (موقف المثقف من المؤسسة)، والذي شكل أحد أهم محاور هذه القراءة منذ السلسلة الأولى للروايات التي تناولتها، ومثقفنا هذه المرة هو رئيس المعماريين سنان، فبعد موته، اتهمه أحد تلامذته واسمه داوود، في أثناء نقاش مع تلميذ سنان الآخر جهان بأنه “… معماري عظيم، لكنه جبان رعديد، لم يتفوه بكلمة واحدة ضد القسوة أو الظلم”، لأجد نفسي متورطاً هذه المرة في الدفاع عن سنان بوصفه مثقفاً لسببين: أولها أنه صاحب مشروع معماري ضخم، ولم يكن باستطاعته إنجازه بمنأى عن التعامل مع السراي العثماني، ولعل العالم كله اليوم يشهد لسنان بنجاعة رؤيته، خاصة وأنه، وبفضل إنجازاته الاستثنائية، ترك إرثاً فنّياً ضخماً، فيما أصبح هو أكثر شهرة من معظم السلاطين العثمانيين، أما ثاني الأسباب فهو داوود نفسه، التلميذ الذي قاد مؤامرة خفية مع حسنة خاتون (مربية القصر) شكلت بمجملها أحداث الظل في الرواية، وكشفت عن مثقف غاية في الدناءة ليس فيما يختص بنكرانه لجميل معلمه فقط، بل أيضا فيما يتعلق بحقده على أقرانه، وتزويره لوصية سنان الخاصة بخلافة جهان له كرئيس لمعماريي السلطنة ليحتل هو محله في نهاية الأمر.
عداً حلقة أخرى أخيرة