لعبة الحبّار والعبودية الحديثة
منتظر الشيخ
أردت في بادئ الأمر أن أقدم تلخيصاً مقارباً لهذا العمل الدرامي الكوري، فوجدت أن تلخيصه ليس بالأمر اليسير، ولا المحبب للقارئ، فالمتابع لهذا العمل يكاد لا أن يبلغ حدثاً مروعاً من الأحداث التي تعرض فيه، حتى يشعر بالشوق الشديد للانتقال لمشاهدة ما بعده من حدث أشد ترويعاً منه، والمشاهد فيه يخدع نفسه حتى يوشك أن يحبب إليه هذه الأهوال التي لا تُحتمل ولا تُطاق، وحين يصل إلى نهاية هذا العمل يشعر بالأسف غير القليل على أنه فرغ منه، وفارق هذه الأهوال الشديدة.
شخصيات هذا العمل متنافرة متدابرة، فكل منهم حريص ـ أشد الحرص وأقواه ـ على أن يفر من الموت، وهو في الوقت الذي يفر فيه من الموت في اللعبة، يفر من الفقر في واقع الحياة، صراع فردي تنتهي به الفردية إلى غايتها، لا يمكن أن تتخذ فيه صديقاً، ولا أن يعينك عليه رفيق، حتى يجد الرابح فيه نفسه مستوحش َأبد، كالوحشة الآبدة في أعماق الصحراء.
وما أكثر الظواهر الفنية في هذا العمل، لكن هناك ظاهرة واحدة لا أحب إهمالها، هي ظاهرة الطير التي تستأنس بالجثث الكثيرة المتناثرة، كما يصورها لنا قدامى الشعراء، عند عكوف النسور على جثث القتلى في ميادين الحرب بعد انتهاء المواقع، لكن في هذا العمل يصور لنا هذه الطيور على أشكال بشر أتخمت من كثرة المال، و اجتمعت لتسأنس بجثث القتلى، وكأنه يصور لنا الرأسمالية بكل ما فيها من قذارة، ليست بعيدة عن صورة روما القديمة التي كانت تستخدم العبيد وقوداً عضلياً للمعارك، وكان المستعبدون مُجبرين على تقديم فقرات قتال دموية، بعضهم مع بعض، ومع الحيوانات المفترسة من أجل التسلية في الساحات العامة، برعاية الإمبراطوريات نفسها.
الرقّ والعبودية الذي خصص له فقهاء المسلمين أبواباً في كتبهم، أحكاماً ومباني مقزرة وتقشعر لها الأبدان حسب وصف المفكر عدنان إبراهيم في إحدى خطبه، ليس حتى بريئاً من تشريع أحكام تشرعن تحولات العبودية الحديثة.
وتحول المجتمع من الشكل الإقطاعي إلى الشكل الرأسمالي بعد الثورة الصناعية، الذي استبدل طبقة العبيد وأحل محلها طبقة العمال والموظفين، الحقيقة هي أن الرأسمالية استبدلت العبيد بطبقة العمال والموظفين الذين تستهلك أعمارهم في العمل لسنوات طويلة من أجل إثراء فرد واحد أو عدة أفراد دون أدنى مشاركة فعلية ملموسة في الربحية.
أبطال اللعبة اضطروا إلى المشاركة في هذه اللعبة، ليس حباً في المال، إنما عبر أكثر صور العبودية الحديثة شيوعاً، أعني عبودية الديون للبنوك والمصارف، وهي تعد أكثر أشكال الرق المعاصر شيوعاً، وعبودية الدَّين وفقاً للجمعية الدولية لمكافحة الرق، وهي منظمة غير حكومية تتخذ من لندن مقراً لها، حيث تقول إن “الشخص يصبح عامل سخرة عندما يُطالب بالعمل كوسيلة لسداد قرض حصل عليه. ثم يخدع الشخص أو يُضطر إلى العمل مقابل مبلغ زهيد جداً من المال أو من دون أجرة، وغالباً ما يكون ذلك لمدة سبعة أيام في الأسبوع”.
في السياق ذاته، تشير تقديرات بنك التنمية الآسيوي إلى أن عدد عمال السخرة في باكستان يصل إلى 1.8 مليون شخص، يعملون بشكل أساسي في قمائن الطوب وفي الزراعة ومصائد الأسماك والتعدين.
وفي القطاع الريفي في البرازيل، كشف تقرير صدر عن الأمم المتحدة في عام 2010 عن إغراء الكثير من العمال الفقراء بالعمل في المناطق البعيدة عبر وسطاء قاموا بتحصيل مبالغ مقدمة على مرتباتهم، واعدين إياهم بأجور عالية. غير أن العمال وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أخذ ديون كبيرة لتغطية تكاليف الانتقال والغذاء، دون وجود أي مؤشر واضح لكيفية حساب تلك الديون أو الأجور.
وتحدث ممارسات مماثلة لتلك في بنجلاديش.
تنقلنا لعبة الحبار في نهاية العمل إلى صورة الشاب الناجي الوحيد من لعبة الموت، هل تجاوز هذه الصور المؤلمة بعد أن امتلأ رصيده بالمال، ثم يصور لنا صراعاً أقوى من صراع الإنسان مع الموت والفقر، صراع الضمير الذي يلاحقه في نومه ويقظته.